صديق لي كريم متخصص في أحد التخصصات العلمية البحتة كان يتحدث بدماثة قل نظيرها، لكنه في أثناء حديثه عن أحد زملائنا المختصين في العلوم الإِنسانية قال عن تخصصه في الأدب: « وما الأدب سوى أناشيد ومحفوظات «!! هذه هي الفكرة الأولى التي يحملها عن الأدب المختصون في التخصصات العلمية!
أما الفكرة الثانية فيحملها عن الأدب معظم الناس في المجتمعات المتخلفة: أنه وسيلة للاستمتاع والتفكه والطرب، ولذا تجد كثيرين منهم انطباعيين.. سماعيين يرددون: للشاعر والكاتب « أعد... أعد «، وبعضهم تراه كأنه الخليفة على عرشه أو كأنه الإِنسان الكامل المنزّه وهذا الأديب المسكين حضر ليسليه ويضحكه أو ليعجبه، وقاعدة فئة كثيرة من هؤلاء إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقا أن يقال له شعر!! ويظنونها قاعدة معيارية بمعيارية نفوسهم، لذا يضع بعضهم نفسه على وضع الاهتزاز قبل حضور بعض الندوات الثقافية والأمسيات الأدبية!!
أما الفكرة الثالثة فترى الأدب وسيلة لمحاربة الآخر أو لتثبيت فكرة أو لدحض فكرة أو لغير ذلك من الأغراض التي تستعمل للحفاظ على السلطة.
هذه هي الأفكار الرئيسة التي يخضع الأدب لها، وهي لا شك تؤثر في دراسة الأدب الأكاديمية فلماذا ندّرس الأدب وندرس الأدب ؟؟ سؤال صعب.
في كتاب تزفتان تودروف الذي ترجمه عبد الكبير الشرقاوي وعنوانه (الأدب في خطر) ويدور حول مستقبل دراسة الأدب في فرنسا نجد هذه العبارة الرائعة :» ومنذ عصر الأنوار نعتقد أن ميزة الكائن البشري تتطلب منه أن يتعلم التفكير بنفسه بدل الاقتصار على رؤى العالم الجاهزة التي يصادفها من حوله... وللأدب دور فريد يلعبه فهو بخلاف الخطابات الدينية أو الأخلاقية أو السياسية لا يصوغ نسقا من التعاليم «. أي أن الأدب ضروري للحياة، فهو يغير ولكن بطريقة غير مباشرة وبطريقة النقاط الصَّغيرة من الماء التي تقطع الصخر مع مر الزمن... هذا إذا وعى الأدب الحقيقي دوره الإِنساني وتخلص من كل ما يضاد الإِنسانية.
إن الأمم الحية لا تفاخر بشيء كما تفاخر بأدبها وبما وضعه أدباؤها من روائع خالدة للتغني بالحرية والكرامة والقيم العالية الأخرى في تجسيدات مبتكرة وممتعة وفريدة... وفي رأيي أن قضية الأدب في المجتمع تخضع لعدة نواح منها:
الأدب والإرهاب
فمن بين الملحوظات التي لحظها بعض الذي يتابعون المنضوين للجماعات المتشددة أن هؤلاء إما أن يكونوا من محدودي الثقافة الذين يسهل أدلجتهم واستغلال الجانب العاطفي السطحي بكل يسر أو يكونوا من أصحاب التخصصات العلمية الذي لم يتلقوا بعدا فلسفيا وأدبياً يمثل كتلة صلبة للتفكير المستقل وللمقارنة وللقبول بالتنوع والنسبية والحوار وللتعرف على ثقافات ورؤى، وعدم بخس الإِنسانية ما وصلت إليه من قيم رفيعة في الدين الإسلامي أو في غيره من الأديان، ولذا يسهل أدلجة أصحاب التخصصات العلمية لأن كثيرا منهم يعانون من الخواء المعرفي الثقافي.
الأدب والتعليم
إِذْ نجد كثيرا من المنتقدين الأدب يقرنون بين التخصصات الأدبية والبطالة أو حتى الوظيفة المتدنية الراتب، ليس هذا فحسب بل كما أسلفت عن أحد أصدقائي الأكاديميين هم مجرد حفظة أناشيد أي ليس لديهم قدرة على التفكير وهم أقل من التخصصات العلمية مكانة وقيمة، وهذه دعوة باطلة لأن التخصصات كافة هي سلسلة متصلة ولن يكون ثمة تميز في التخصصات العلمية دون التخصصات الإِنسانية أولاً فهي بمثابة الأساس الذي يبنى عليه الوجود الفلسفي لكل التخصصات، فإذا كان ضعيفا فلن تحقق التخصصات العلمية إلا نجاحات فردية أو جزئية سريعا ما تخبو وتتلاشى والغرب كمثال هو متفوق في كل التخصصات سواء أكانت إِنسانية أم بحتة، وليس مطلوبا من متخصص في الأدب أن يحل مشكلة تقنية بيد أنه من الضرورة أن يحل مشكلة وجودية أو مشكلة قيمية أو مشكلة جمالية، ولذا لا يصلح في الغالب للقيادات ولا ينجح ولا يبدع في القيادة إلا من حصل زاد معرفيا وفلسفيا وأدبيا راقيا، وهذا يتوقف على نوع الأدب الذي يدرس في المدارس والجامعات وقيمته الوجودية والاختيارات التي تتم في الإطار التعليمي والأكاديمي للنصوص الأدبية وللطرق التي تتم بها معالجتها ودرسها. أي قد يؤدي الأدب دورا عكسيا إذا استعمل بطريقة خاطئة.
أما التوظيف في التخصصات الإِنسانية بما فيها الأدب، فهذه قضية لا علاقة لها مباشرة بتدريس الأدب ودراسته، فمن اللازم استمرار كل التخصصات في الجامعات وعدم ارتباطها كوجود بالناحية الوظيفية، أما من ناحية كمية فالجهات المختصة ينبغي أن تنسق ليجد الناس الحياة الكريمة بعد الخروج من الجامعة، ثم إن مسألة التوظيف هي في العادة نتيجة لمخرجات سياسيات اقتصادية وإخفاقها أو نجاحها هو رهن بتلك السياسات؛ ولذا نجد بطالة في تخصصات علمية بل حتى تخصصات علمية حديثة جدا! !
الأدب والخطاب
حينما يعيش الأدب في مجتمع ما فإنه يكون مرهونا لخطابات ذلك المجتمع، فهو يعكس كل الخطابات التي تدور في ذلك المجتمع فإذا كان المجتمع مريضا ضعيفا أو كان المجتمع مؤدلجا أو كان المجتمع مصاباً بأي علة من العلل فإنَّ كل ذلك يظهر جليّاً في الأدب من حيث وجوده ومن حيث قيمته ومن حيث قضاياه ومن حيث مستقبله.. فمن الطبيعي ألا يلد البط صقورا أبداً، ولذا فإنَّ النظرة إلى الأدب قد تكون على أنه مجرد وسيلة للمتعة السريعة وهذا ما أراه واشمئز منه حين أرى منتفخا في الصفوف الأولى يطلب من أديب أو شاعر أن يعيد مقطعاً أعجب به أو أضحكه، وتراه ينظر للأديب المسكين بنظرة فوقية تراه أقل شأناً من ذلك المنتفخ المتفضل على الأديب بالحضور والاستماع؛ فالأديب ليس إلا كمهرج أتى ليلعب به، وهذه تكاد أن تكون نظرة المجتمع للأدب. علاوة على ذلك فهم ينظرون النظرة الشعبية للأدب وليس النظرة الشرعية، وتلك النظرة تجعل الأدب مجالا للمتعة التي تنشأ في الغالب من استعمال أسلوب المبالغة أو المفارقة أو أسلوب إعادة إنتاج الحكم المباشرة المبتذلة ثم يمضي كل لشأنه. وأكاد أجزم أن هذه نظرة تؤثر في وجود الأدب وفي قيمته وفي قدرته على الإبداع والتميز بل تؤثر في الناس أنفسهم فتبعدهم عن الأدب الراقي العظيم وتبعدهم عن مشقة القراءة وتثقيف النفس بروائع الأدب العالمي والمحلي إلا الرضا بالسطحية الفجة التي لا تبني إِنسانا، بل تبني شبه إِنسان يكون من السهولة لأدنى العواصف أن تجتاحه فضلا عن إمكانية استعماله للتوجيه المسبق من كل من يملك أدوات لذلك التوجيه، وهنا تأتي الفكرة الثالثة وهي اختزال الأدب إلى وسيلة لمحاربة الآخر أو لتثبيت فكرة أو لدحض فكرة أو لغير ذلك من الأغراض التي تستعمل للحفاظ على سلطة الخطاب أو خطاب السلطة، وهنا يصبح الأدب المرعي هو الأدب الموجه أو الأدب المسيج بسياج خطابي لا يتعداه؛ ومن ثم يتصنع تلقائيا وضع أدبي غير سوي يمتاز بالضعف والهشاشة والمباشرة والسطحية حتى في منظوماته المضادة للخطاب السائد.
لذا فليس الأدب في خطر فحسب بل الناس في خطر إن لم يكن لهم أدب عظيم وإن لم يكن لهم أدباء عظماء.