يبدأ ابن رشد مع التأويل من منطلق ظاهري، بمعنى أنه كان يقدم التعامل بالظاهر مع النص على التأويل، ويحكي إجماع المسلمين على الإقبال على ظاهر النصوص دون تأويل، فظاهر النص هو الأصل والأساس عنده ولا يلجأ إلى التأويل إلا بشروط وكأن التأويل عنده يحتاج إلى تأويل؛ فيُكثر في كتابيه (فصل المقال، والكشف عن منهاج الأدلة) من التركيز على الإتيان بظاهر النص، وأن ظاهره هو المنطلق لفهمه قبل العدول إلى تأويله، بل إنه يعتبر العدول إلى التأويل هو السبب الرئيس في تفرقة المسلمين وأنه لم يكن في عصر الصدر الأول من الصحابة الكرام بل ابتدعه من أتى بعدهم وذلك بقوله: «الصدر الأول إنما صار إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها، ومن كان منهم وقف على تأويل لم يرَ أن يصرح به، وأما من أتى بعدهم فإنهم لما استعملوا التأويل قلّ تقواهم وكثر اختلافهم وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقًا» (فصل المقال لابن رشد ص57).
ولأن ابن رشد يبدأ بتقديم ظاهر النص على تأويله فإنه اعتبر بذلك فهم الجمهور الذين يصنّفهم في أدنى مراحل الفهم للنص وذلك في تقسيمه للناس إلى أقسام ثلاثة: الجمهور وهم الخطابيون يهتمون بالخطابة، الجدليون يهتمون بالجدل وهم وسط بين طرفين، برهانيون أهل البرهان العلماء (كتاب فصل المقال ص52)، ولما ارتضى التأويل كحل لعويص الآراء الفلسفية - العقائدية في الدين فإنه حصره على أهل البرهان أو العلماء ويقصد بهم الفلاسفة فهم المخولون وحدهم للتعامل مع النص تأويليًا؛ ولعل منطلقه في ذلك كونه يعتبر الشريعة ظاهرًا وباطنًا والباطن لأهل البرهان بينما الظاهر فهو للجمهور (فصل المقال ص-45-43،) ويمنع عرض التأويلات على الجمهور لأنه يربط التأويل بالنظريات والبواطن التي يجب إخفاؤها عن الجمهور، بينما العمليات أو السلوكيات فإنها تتحمّل نقل الإجماع فيها لذا فهي خاصة لأهل البرهان والعلماء الذين اختصهم الله بباطن الشريعة، والجمهور الذين لا يصلون إلى مرتبة أهل البرهان في الفهم إما بسبب فطرتهم وإما لعادتهم أو لعدم تمكنهم من أسباب تعلّمه فإن الله يقرب لهم فهم الشريعة بالأمثال التي تدل على المعاني، فالأمثال توافق الجمهور لكن المعاني خاصة بأهل البرهان لا يفهمها غيرهم، لذا فإنه ينتقد الغزالي لأنه يُظهر التأويل للجمهور ويدخله ضمن الخطابة والجدل بينما يرى أن ما يخص أهل البرهان فإنه يقتصر نشره في كتب البراهين الخاصة بهم دون غيرهم من الجمهور، بل إنه يرى عدم حث الجمهور للاطلاع على كتب البرهان، ويعتبر حثهم على البرهان واطلاعهم على التأويل هو حثّ لهم على الكفر لأن التأويل يؤدي بالجمهور إلى الكفر.
والناظر في فكر ابن رشد وفلسفته في التأويل يرى أنه ينطلق من محاولة الجمع بين الشريعة والحكمة - الفلسفة لذا فقد بسط لها كتابه (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال) وهو بهذا يرد على الغزالي وغيره ممن جرّمو الفلسفة ووقفوا منها موقف نفور ورفض، وجاء بالتأويل كحل يتيح له التوفيق بين نصوص الشريعة والعقل - البرهان، فهو ملاذ لا يعتبره أصلًا في فهم النص، وعليه فإنه فنّد التعامل مع النص الذي يبدأ به مع ظاهره حتى ينتهي به آخر الأمر إلى التأويل ونعرف هذا من تفصيله الآتي: «فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما؛ فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سُكت عنه في الشرع أو عرّف به؛ فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض في هنالك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي، وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفًا؛ فإن كان موافقًا فلا قول هنالك؛ وإن كان مخالفًا طُلب هنالك التأويل» (فصل المقال ص35)، فنلحظ هنا أن التأويل هو حل ثانوي وأيضًا هو حل مهم للتعامل مع النص عند الفلاسفة الدينيين، فلا يستطيع الفيلسوف المتدين أن يرفض التأويل كبحبوحة للتلاقي مع النص، فابن رشد يعمد إلى التوفيق فهو مشغول بالتقعيد للتأويل حتى لا ينفرط منه هذا المنهج الذي لا غنى عنه، لذا فإنه يصرح بأن البرهان - العقل لا يمكن أن يواجه الشريعة فيقول: «نعلم على القطع أنه لا يمكن أن يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع» (فصل المقال ص35).. ويعلل ارتكانه للتأويل وحث أهل البرهان عليه لأنه يعتبره منبهًا للراسخين في العلم إلى الآيات التي في ظاهرها التضاد، فالتأويل عنده أداة لفك هذا التضاد وللتوفيق بين الحكمة والشريعة.
ولعل ما يميّز تأويلية ابن رشد هو اتكاؤه على منهجية في التعامل مع التأويل، فلم يعتبر التأويل هروبًا من إشكالات النص الديني بل اعتبره منهجًا متكاملًا ثريًا للتعاطي مع النص حتى وإن كان ثانويًا.. لكننا لا يمكن أن نتجاوز له تهميشه للجمهور بهذه النظرة المغرقة في الدونية حتى إنه يحرم نشر التأويل لهم، وذلك لأنه حكم عليهم بعدم الفهم وألجأهم إلى ظاهر النص لكونهم في منزلة لن يصلوا معها إلى فهم التأويل، وهذه النظرة المستعلية للجمهور أدّت بابن رشد إلى احتكار الحق حتى إنه اعتبر منهجه في التأويل هو الطريق الوحيد للإسلام بعدما نقد الأشاعرة والمعتزلة وأشار إلى خطئهم في التأويل، فابن رشد يتعامل مع الفلسفة والفكر بمنهجية معرفية تنقصها النسبية في الطرح؛ وهذه آفة تتلبس الكثير من الفلاسفة على مر التاريخ.