«رؤية خاصة»
الحديث عن الفن الروائي ممتع دائماً، لأنه فن هائل يتسع لعدد هائل من التكوينات والأجناس والرؤى والأنواع، ولذلك فإنه يشرع نوافذه المتسعة (لنظرات) من كل الزوايا وعلى مدى الأزمان.. ويستجيب لمقاربات (أشكال وألوان)، مثل محاولتي الآن لرصد المشهد كاملاً من خلال فكرة تصنيف الروايات عبر التاريخ، باعتبارها إما روايات (عظيمة) أو (جميلة) أو (فنية باقتدار).
(1)
فالروايات العظيمة -كما أزعم - هي التي حققت معاني (العظمة)، المرتبطة دائماً بسلطة الأثر وقوة التأثير، الذي يمتد لأطول فترة ممكنة من الزمن في واقع التلقي، وواقع اعتبار روايات ما مصدراً إلهامياً لسلسلة طويلة من الأعمال أو الروائيين أو النصوص، قريباً وبعيداً. وأظن أن أهم الروايات التي تتسم بتلك الأطياف الجليلة الخالدة هي روايات: (الحرب والسلام) لتولستوي، التي مثلت بدهاء الروح الروسية (العامة) في علاقتها مع الحياة والموت، كما لم يمثلها أثر أدبي على الاطلاق، و(البؤساء) لفكتور هيجو، التيكانت الملحمة الأولى لصياغة المشاعر الإنسانية على الروق، في تطلعها للقيم المثالية العليا، وفي تناقضاتها المزدوجة بين (الظلم والعدل) و(الخسارة والانكسار) و(الحب والكرة)....، وفي كل أحوالها وتجلياتها. كما يندرج ضمن تلك الأعمال العظيمة رواية (مادام بوفاري) لوجوستاف فلوبير، التي صادف بها قراء الأدب لأول مرة كتابة موضوعية، يجعل مبدعها لشخصياته الحرية التامة في قول كل شيء وفعل أي شيء، بغياب أو (تغييب) خالص ومحترف لمؤلف (حقيقي) يقف خلف كل تلك الشخصيات، كما كانت السيدة (بوفاري) الدليل الريادي في عالم الأدب لاقتحام الواقع المعاش مع كل تفاصيله وأبعاده.
ولا شك أن روايتي (دون كيخوته) لسيرفانتس و(مائة عام من العزلة) لماركيز، تنتمي-بوقار- لتلك السلسلة العظيمة من الروايات.
(2)
أما القائمة الثانية، فتشمل (أهم) الروايات العالمية، التي كتبت (بحرفنة) فنية عالية القيمة، سواء على مستوى تعدد صيغ السرد، أو بوليفونية الأصوات وتعدد مستويات الخطاب الروائي، أو اللعب بالزمن لدرجة جعل الزمن الماضي-مثلا- لحظة حاضرة باستمرار، أو اختراق الشخصية الإنسانية لاستخلاص شخصيتها الحقيقية الأخرى..
ولذلك فإن الروايات التي من الممكن أن تمثل ذلك الخلق الفني (المهول) هي: روايتي (الإخوة كارامازوف) و(الجريمة والعقاب) لدستوفسكي، و(يوليوس) لجيمس جويس و(البحث عن الزمن الضائع) لمارسيل بروست..وهكذا!
(3)
أما روايات القائمة الذهبية الثالثة، فهي الروايات التي أفضت بالمتلقين عبر الزمن، إلى حالات شتى من الإحساس (باللذة الجمالية)، التي تنشأ لأسباب شتى: كمصادفة الشخصيات المختلفة عن النسق البشري المألوف، أو الولوج إلى فضاءات زاخرة بالأرواح الغارقة في عالم من الأسرار والأسحار وتراتيل المعابد، أو التفاعل مع قيم الصمود والحب والتضحيات التي تنبثق من حكايات المشاهد الموغلة في الوجع والحنين، ولعل (التمثيل) لتلك القائمة يطول، مع تعدد تلك الاستجابات الجمالية غير المشروطة باستحقاقات الخلود، أو نداءات الفن المستحيل، وربما أن هذه القائمة الجميلة حقاً تتجلى في روايات (اسم الوردة) لامبرتو ايكو، و(زوربا) لنيكوس كازانتزاكس، و(داغستان بلدي) لرسول حمزاتوف، و(العطر) لباتريك زوسكيند، و(المحاكمة) لكافكا، و(الغريب) لالبير كامو... (وبالطبع فيمكن تطعيم تلك القائمة بأعمال عربية، كرواية «مواسم الهجرة» للطيب صالح، «وسمرقند» لأمين معلوف، و»ذات» لصنع الله إبراهيم، «ومدن الملح» لعبدالرحمن منيف...).