كتب الأخ أحمد المهوس مقالاً في عدد المجلة الثقافية المنشور في يوم السبت الخامس من شهر ربيع الأول، وقد نثر فيه جملة من النقائص على شيخي ابن منظور الذي نهلت من علمه كثيراً، وهو أساس في بحثي في رسالتي للدكتوراه، وقد ذكر ابن تيمية (الفتاوى 11/512) أن كل من انتفعت بعلمه فهو شيخ لك ولو كان ميتاً، فسلف الأمة شيوخ لخلفائهم قرناً بعد قرن، وهو ما يُعرف عند المحدِّثين بالأخذ بالوِجَادة؛ فكان عليَّ الدفاع عن شيخي إظهاراً للحق الذي معه، ودفعاً للظلم الذي وقع عليه.
وهذه النقائص شبهات شاذة أوردها بعض اللاحقين دون تحقيق وفحص، ومن قرأ مصنفات ابن منظور وأدام النظر فيها أدرك بطلان هذه الشبهات عياناً بياناً، أما إرسال الأحكام دون تدقيق فدون ثبوتها خرط القتاد وليل طويل السهاد، وسأعرض كل شبهة جاءت في المقال متبوعة بالرد عليها.
الشبهة الأولى:
السرقة العلمية التي وقع فيها ابن منظور!!
ذكر الأخ في مقاله أن ابن منظور في معجم لسان العرب وقع في السرقة العلمية لأنه نقل من جمهرة اللغة لابن دريد، ولم يذكره في مصادره الخمسة التي نصَّ عليها في مقدمة معجمه.
وفي هذه الشبهة جرأة على لغوي جليل دون بينة ثابتة، وقد كتب الله لمعجمه القبول في الأمة من بعده، واتهامه بالسرقة العلمية يدل على قلة معرفة بمفهوم السرقة العلمية من جهة، وبمنهج ابن منظور في النقل من مصادره الخمسة من جهة أخرى، لأن ورود اسم ابن دريد أو جمهرته في معجم ابن منظور لا يدل على أنه نقل من ابن دريد مباشرة ليجعله من مصادره، بل هو ينقل من مصادره الخمسة التي نقلت من ابن دريد وغيره، فالنصوص التي جاء فيها ذكر لابن دريد هي نصوص موجودة في أحد مصادره الخمسة التي اعتمد عليها، ولم يأتِ في معجم لسان العرب - وقد قرأته كاملاً - نص لابن دريد لا يوجد في مصادره الخمسة، ومن شواهد ذلك (لسان العرب 13/482)، وجاء فيه: (قال ابن دريد: رَجُـلٌ تَـيَّهَان إذا تاهَ في الأرض). وهو كلام ابن دريد نفسه في جمهرته (2/1033) غير أن ابن منظور لم يأخذه من الجمهرة مغفلاً صاحبه ليُتهم بالسرقة العلمية!! بل نقله من مصدر من مصادره الخمسة التي نقلت هذا النص من جمهرة ابن دريد، وهو معجم المحكم لابن سيده (4/378).
فالخلاصة أن ابن منظور لم يعتمد على جمهرة اللغة لابن دريد، ولم يرجع إليه، وما جاء منه في لسان العرب فهو منقول من مصادره الخمسة، فتسقط بذلك شبهة أن ابن منظور سرق من ابن دريد دون أن يذكره، أو يذكر كتابه في مصادره.
الشبهة الثانية:
من الخطأ الإحالة إلى معجم لسان العرب!!
ذكر الأخ في مقاله أن من الخطأ الإحالة إلى معجم لسان العرب لابن منظور لأن ما في معجمه مجرد نقل من المعاجم الخمسة التي اعتمد عليها، وأقام عليها كتابه المزعوم!!.
وهذه شبهة أعجب من سابقتها، فمعاجم اللغة وكتبها تنقل من بعضها ما جاء على ألسنة العرب الأوائل، فتهذيب اللغة للأزهري ينقل مما قبله كالعين للخليل وغيره، والصحاح للجوهري ينقل مما قبله كجمهرة اللغة لابن دريد وغيره، والمحكم لابن سيده ينقل مما قبله كصحاح الجوهري وغيره، والنهاية لابن الأثير ينقل مما قبله كالأساس للزمخشري وغيره، واللسان لابن منظور ينقل مما قبله كالمحكم لابن سيده وغيره، ولو منعنا الإحالة إلى كل معجم ينقل من أسلافه لسقطت غالب معاجم اللغة بهذه الدعوى!
فالمعاجم أوعية لحفظ لغة العرب، ولن يأتي مصنف معجم بلغة من عنده ليجمعها، بل سيعتمد على المعاجم وكتب اللغة المصنفة قبله، ومع هذا نحيل إلى كل واحد منها دون غضاضة ولو كان فيه نقل من سابقه، فما بالنا منعناه على ابن منظور دون غيره؟! وإن كان منع الإحالة إليه لأنه مجرد ناقل لم يظهر دوره العلمي في حذف ما لا حاجة إليه وإضافة رأيه عند الحاجة إليه فالرد في التالي.
الشبهة الثالثة:
ابن منظور مجرد ناقل ليس له إضافة أو حذف!!
ذكر الأخ في مقاله أن ابن منظور في معجمه مجرد ناقل لما في مصادره الخمسة دون إضافة أو حذف؛ فلا تصح بذلك نسبة الكتاب إليه، وإن زعم ذلك في مقدمته، والأولى به أن يسميه (جامع بعض المعاجم!).
وقد رأيت هذه الشبهة أيضاً شائعة عند بعض المتخصصين بالعربية في عصرنا، فيظنون أن ابن منظور في معجمه مجرد ناقل لما في مصادره الخمسة دون إضافة أو حذف، وهو زعم باطل، فمن قرأ معجم لسان العرب كاملاً يجد فيه مواضع لا تكاد تحصى من الإضافات التي اجتهد فيها ابن منظور تعقيباً على بعض نقولاته ورداً على بعض ما جاء في مصادره، ومن قارن بين ما في معجم لسان العرب ومصادره الخمسة (التهذيب للأزهري والصحاح للجوهري والمحكم لابن سيده وحواشي ابن بري والنهاية لابن الأثير) يـجد بوضوح أنه حذف منها أشياء كثيرة يرى عدم أهميتها في المادة المنقولة كحذف بعض أسماء الكتب والشواهد والأمثلة وأسماء الرواة ونحو ذلك.
ومن عادة ابن منظور في إضافته أن يصدر كلامه بقوله: (قلتُ)، أو يصدره باسمه: (قال محمد بن مكرم، أو قال عبد الله محمد بن المكرم)، ونحو ذلك مما يدل السياق على إضافته، ومن شواهد هذا (لسان العرب 11/87) قولـه تعقيباً على قول ابن الأثير: (قال محمد بن المكرم: قول ابن الأثير الناس يطلقونه في العرف على الدينار خاصة قول فيه تـجوُّز، فإنه إن كان عنى شخص الدينار فالشخص منه قد يكون مثقالاً وأكثر وأقل، وإن كان عنى المثقال الوزن المعلوم فالناس يطلقون ذلك على الذهب وعلى العنبر وعلى المسك وعلى الجوهر وعلى أشياء كثيرة قد صار وزنها بالمثاقيل معهوداً كالترياق والراوند وغير ذلك...). ونظائر هذا من ابن منظور كثيرة مبثوثة في معجمه.
الشبهة الرابعة:
تناقض ابن منظور في تقريراته!
ذكر الأخ في مقاله أن ابن منظور ناقض نفسه، ففي مقدمة المعجم أشار إلى أن ما في معجمه من صواب أو خلل فهو عائد إلى أصوله التي اعتمد عليها، ثم يقول في أكثر من موضع (كتابي هذا)، فإن كان كتابه فليحمل خلله وصوابه، أو لا ينسب الكتاب إلى نفسه!
اتهام ابن منظور بالتناقض في هذا الموضع لا يخلو من نقص في إدراك ما يريد بكلامه، فهو يريد أن الصواب أو الخطأ إن كان في النص المنقول الذي أورده فيُنسب صوابه أو خطأه إلى صاحبه الذي نقل منه، وهذه أمانة علمية يسير عليها جميع المحققين، فعندما تنقل من مصدر من مصادرك فلا يُعقل أن يُنسب ما جاء فيه من خطأ أو صواب إليك، بل يُنسب إلى صاحبه الذي نقلت منه، أما قوله (كتابي) فهو صادق في ذلك، فمعجم لسان العرب يقوم على ثلاثة أسس: المادة اللغوية المنقولة والمنهج المعجمي المعتمد في تصنيفها وجهد ابن منظور فيها من حذف أو إضافة أو مزيد ضبط ونحو ذلك.
فأصل المادة المنقولة ترجع إلى أصحابها، فإن وقفت فيها على صواب أو زلل، أو صحة أو خلل، فهي نقول منهم ولهم كما ذكر في مقدمته، أما إن وقفت على شيء يتعلق بمجموع المعجم وعمل ابن منظور فيه، فالكتاب من صنعه، وله مزايا، وعليه مآخذ كإهماله ما لا يُهمل في بعض مصادره الخمسة، وليس هذا موضع بسطها، وقد أفردها في مقال لاحق بإذن الله. وهذا ما تيسر من رد على هذه الشبهات، ولو اتسع المقام لزدت في المقال، ولعل في المحرَّر غُنية عن التطويل. غفر الله لي وله ولوالدينا ولجميع المسلمين، والله تعالى أعلم وأحكم.