لا يقتصر الخطابُ العنصري على ذاك الذي يوجّهه البيضُ إلى الأفروأمريكيين خصوصًا والملونين عموماً في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل يبدو أن هؤلاء الأخيرين أنفسهم يوجهون لأنفسهم خطابًا مماثلًا، حتى إن لم يكن بالمعنى الضيقِ أو الشكل ذاته بالضرورة. ويظهر هذا أكثر فيما يظهر في رغبة الكثيرين منهم في التخلصِ من «وصمة سوادهم» في سبيل الحصول على حياة أسهل وأفضل من تلك التي يعيشونها في ظل «سيادة الأبيضِ»، رغم أن انتخابَ باراك أوباما - وإعادة انتخابه - ليكون رئيسًا للبلاد منح الأفروأمريكيين أملًا في تجاوز الإرث البغيض للعنصرية.
تصيب «متلازمة العيون الزرقاء والبشرة البيضاء» كثيراً من الأفروأمريكيين لأسبابٍ تتعلق بتجربتهم الطويلة مع الرق والعبوديةِ، وربما كان هذا أحد الأسبابِ التي جعلت عددًا منهم يتطرّف في اتخاذ خطواتٍ تبعد عنه شبح هذه الوصمة، مثل تلك التي يشاع أن ملك البوب «مايكل جاكسون» قام بها للانسلاخِ من جلده (فعليًا وليس مجازًا)، رغم ادّعائه إصابته بالبهاق في مقابلة أجرتها معه أوبرا وينفري، لكنه قام أيضاً بتغيير شكل أنفه السمة الأبرز «للعرق الأسود»؛ ما يجعل موضوع البهاق مثار شكٍ!
في روايتها «العين الأكثر زرقة» تتحدث توني موريسون عن فتاة سوداء تستميت في سبيل الحصول على عينين زرقاوين؛ لأنها مقتنعة بأن هذا فقط ما سيمنحها القبول في المدرسة التي تتعرض فيها للسخرية شكلٍ دائمٍ لسوادها وقبحها الظاهر، وهو ما سيجعل والديها يحبانها ويكفان عن الشجار أيضاً. سعي «بيكولا بريدلوف» الدؤوب ينتهي بها إلى اللجوء إلى مشعوذٍ، رأى أن «هذه الرغبة من بين كل الرغبات التي يريد الناس منه تحقيقها (المال، الحب والانتقام) الرغبة الأكثر استحقاقًا»، فيعالجها بمادة زرقاء تحول عينيها إلى اللون الأزرق، وتصاب بعدها بالعمى وتجنّ.
هذه المتلازمة تتجسد في أشكالٍ عدة، لعل من بينها ما ذكرته توني موريسون في لقاءٍ أجرته معها مجلة «ماغازين ليتيرير» الفرنسية، حين سُئلت عن رأيها باختلاف الكتّاب السود جذريًا عن نظرائهم البيضِ، فقد رأت أنهم يتوجهون بكتاباتهم إلى البيضِ وهو ما أرادت تغييره «إذ ظللتُ أكتب في إطار ثقافتي الخاصة، لا لإثارة القرّاءِ البيض، وإنما لإثارة كل القرّاءِ سودًا وبيضًا».
كان هذا الأمر نفسُه يشغل الشاعرة الأفروأمريكية جويندولين بروكس التي كرّستْ شِعرها تمامًا مثل مواطنتها موريسون للحديث عن معاناة الأفروأمريكيين. وقد نتمكّن من عقدِ مقارنة بسيطة بين «بيكولا» موريسون وفتاة بروكس في قصيدتها أغنية الفناء الأمامي، التي تصف فيها رغبة فتاة بيضاء في الدخول إلى عالم السود والتعرّف إلى نمطِ حياتهم؛ ما يعني أن كلتا الفتاتين تود الانتقال إلى حياة الأخرى، فبيكولا مؤمنة بأن لون العينين الأزرق هو الوصفة السحرية التي ستحل كل مشاكلها، وهو المفتاح الذي سيشرع لها بوابة السعادة والقبول في المجتمع، فيما ترغب فتاة الفناء الأمامي في دخول عالم السود المحرّم عليها دخوله؛ لأنه لا يليق بفتاة بيضاء ببشرة وردية وشعرٍ أشقر أن تدخل هذا العالم الأسود بكلِ ما فيه، بدءًا من بشرة أصحابه وانتهاءً بأخلاقهم السيئة، دون أن يعني ذلك أنها تحلم بتغييرِ لون بشرتها؛ ما يجعل رغبتها في الانتقال آنية ومؤقتة، تستطيع بعدها العودة إلى عالمها الذي جاءت منه بمجردِ شعورها بالمللِ، غير أن بيكولا ترغب بالانتقال بشكلٍ نهائي دون أن تحتفظ بخطٍ للرجعة، فلا أحد يتمنى أن يتحول عن «الأبيضِ» بكلِ متعه و»دنياه الوردية» التي يعد بها!
تقول توني موريسون: «لطالما كان الصراعُ بين التكيفِ مع الواقع الأبيضِ والحفاظ على الهوية السوداءِ هاجسي الأول». وربما للسبب هذا نفسه دعت جويندولين بروكس «بني عرقها» إلى نبذ هذا الشعور بالدونية لمجرد كونهم أصحاب بشرة غامقةٍ، مذكّرة إياهم بتاريخهم الطويل الذي يستحق الاحترام، ويجدر بهم تبعًا لذلك أن يشعروا بالفخر بعيدًا عن أي إحساسٍ بالذل، فتقول في قصيدة لها بعنوانِ «دليل السود»:
* الأسود / هوية / استغراقٌ / ميثاقٌ
على كل أسود أن يؤمن به
لأنه مجده يتحقق فيه.
يقول الأبيض بمرحٍ
كم هو رائع أن تكون أبيض
ويقول الأسود الخامل
كم هو رائع أن تكون أبيض
وهذا يعني أن الأبيضَ
قادرٌ بقوته و... قوتك!
يمكن القولُ إذاً إن التمييز العنصري لا يكمن في ممارسات الآخرين تجاهنا فقط، بل قد نقوم نحن ضد أنفسِنا بممارساتٍ مماثلةٍ، أو أعتى وأسوأ كيلةً، فيكون مآلنا مثل الغراب الذي أضاع مشيته وهويته إن لم يكن هلاكًا شبيهًا بهلاك «بيكولا»!