مرَّ زمن كنا نلوم فيه الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، وكان الأستاذ القدير محمد أحمد الشدي رئيسها السابق يصبر علينا، كما يفعل الكبار دائماً، ثم أتى زمن بكينا فيه على العهد القديم؛ فقد آلت الجمعية إلى وضع لا يسر كل الأطياف، وسادت روح التقشف في غير مواضعها، وغابت برامج كثيرة، وفرّ أبناؤها من أروقتها، وبعضهم يشعر باليُتم وغضاضة التجاهل.
قلتُ هذا وأنا أتأمل الحملة التشكيلية البديعة التي تنبهت إليها الجمعية، وقادت فعالياتها بالتعاون مع إحدى وكالات الدعاية والإعلان الرائدة في البلاد، وتتمثل في المعرض المفتوح في شوارع المدن السعودية لأكثر من ثمانين فناناً، تنافسوا في سبيل تقديم أعمالهم للجمهور في معرض فني يطل على الشوارع، وجميعهم من الأسماء الجديدة التي تؤكد ثراء الساحة والمجتمع وسمو ذائقة الجيل الجديد، الذي سُدت كثير من الأبواب في وجهه، وانهالت عليه التُّهم من كل الجهات.
تنوعت الأعمال المعروضة في شوارع جدة - على سبيل المثال - بين المدارس التشكيلية الحديثة، وهي في مجملها أعمال راقية، فرح الكثيرون بها؛ لأنها تعمل على خفض مستوى التلوث البصري، الذي تضج به الشوارع من لوحات تجارية، تغيب عنها الجوانب الفنية، وانتهاء بالإعلانات التي زُرعت في كل ناصية ورصيف ومفترق طرق، حتى تحوّلت المدن إلى ميدان محموم، يكرس نزعات الاستهلاك والتسليع، في عالم مادي لا يحفل بقيم الجمال والفن والروح الإنسانية.
وكان لهذا المعرض المختلف ألا يمر دون حفلات ثقافية مصاحبة، وقراءات نقدية، وجوائز تُمنح للمشاركين في حضرة الجمهور الذي احتفل بهذه الأعمال. وهنا نتذكر تجربة جميلة للخطوط السعودية «ملون السعودية»، لكنها لم تستمر، ولا نعرف الأسباب. وقد كان خلف الفعالية الأستاذ عبدالله الجهني مساعد المدير العام، وهو الآن مستشار رئيس الهيئة العليا للسياحة، إن لم تخني الذاكرة.
وجدة مدينة عريقة في هذا المجال؛ فلا يخلو ميدان من مجسم جمالي عالمي، وفيها أيضاً المتحف الفني المفتوح، وهو أحد منجزات أمينها الأسبق المهندس محمد سعيد فارسي، صديق الفن والفنانين.
وفي جدة أيضاً بادرت الشؤون التعليمية بالحرس الوطني قبل أكثر من عشر سنوات، فصورت رسومات إبداعية لأبنائها الطلاب، وغطت بها السور المطل على شارع فلسطين؛ فكان معرضاً فنياً في الهواء الطلق، وبادرة فنية مدهشة. ومثل ذلك فعلت كلية التربية «قسم البنات» عبر فرعها المطل على شارع المكرونة بجدة؛ فعلقت أكثر من 300 عمل فني متقن من إنتاج طالبات الكلية، وهي متاحة حتى يومنا هذا، وقد تساقط بعضها متأثراً بالحرارة وتقلبات المناخ.
أما إدارة تعليم جدة أيام مجدها فكانت تنظِّم معرضاً فنياً لأبنائها وسط المدينة القديمة، يسعد به الأهالي، ويتفاعلون مع مبدعيه الصغار.. وهو جزء من رسالة المؤسسة التربوية التي طالها الإهمال، وتتمثل في تنمية الذوق الجمالي ورعاية الموهوبين في مسارات تُعد جزءاً أساسياً من تكوُّن الشخصية المتصالحة مع نفسها والمجتمع والعالم، ويعلو لديها منسوب البهجة والتأمل والتعبير عن الذات بأشكال سلمية نبيلة، لا تعرف العنف، ولا تنزع إلى السوداوية أو الإرهاب الذي أفرزته المقررات المنغلقة والمناهج المعادية للفن وحرية التعبير وتعدد سبل القول، سواء باللون أو الكلمة.
فعلاً.. كان هذا المعرض الشمولي المفتوح الذي قدمته الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون عملاً خلاقاً بديعاً؛ نأمل أن يتكرر.