في جملة لافتة تتصدر مدونته الإلكترونية، يسم الدكتور توفيق السيف قلمه بـ (قلم بلا قيد همه تفصيح الأسئلة)
وفيما يلي شيء من أسئلة تطمح إلى تفصيح.
فالدكتور توفيق السيف يمثل أحد العلامات البارزة في المشهد الثقافي والفكري السعودي التي لا يمكن لراصد أو متتبع تجاوزها، فهو المثقف الذي أنضجته التجربة؛ مضافا إليها عوامل التأهيل الذاتية، والبيئية التي توفرت له في سن مبكرة، فملك ناصية الفكرة الجزلة والأسلوب الشائق. يصفه الناقد محمد الحرز بـ (السهل الممتنع، الذي يذهب إلى فكرته مثلما يذهب الطفل إلى لعبته) ثم إن الدكتور توفيق إلى جانب استعداده الفكري والمعرفي هو نخبوي التكوين الثقافي شعبي الهم والممارسة، فهو منغمس في هموم الناس وشؤونهم، معني بحقوق الإنسان، يؤرقه حلم الدولة المدنية الحديثة، لم يفتأ يطلق دعواته المتتالية والمتناغمة مع الصوت السائد لكثير من المثقفين للوثب على مركب الإصلاح بوصفه الطريق الأسرع والأقل كلفة لتحقيق النهضة المنشودة.
وعلى صعيد التوجه الفكري، يقدم الدكتور توفيق السيف نفسه أنه ذو توجه علماني. يقول في لقاء تلفزيوني أجراه معه عبد الله المديفر: (أنا أؤمن بالعلمانية، أنا أؤمن بضرورة الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، أؤمن بضرورة تجريد المؤسسة السياسية من إمكانية الحديث باسم رب العالمين، وتجريد المؤسسة الدينية من إمكانية استعمال مصادر القوة الخاصة بالدولة).
وامتداد لإيمان السيف بالعلمانية لا بد أن يأتي موقفه منسجماً مع الليبرالية التي تمثل أحد مظاهر التحديث (الحداثة في أحد صورها) التي لم يخف احتفاءه بها في أكثر من مقال صحفي.
في تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط عام 2011 تحت عنوان (كيف يفهم المثقفون السعوديون الليبرالية؟) يقول الدكتور توفيق: (لا أخشى من وصفي بالليبرالية، إذ لا أعتبرها أيديولوجيا أو حزباً أخشى من الانتماء إليه، وإنما هي مبدأ فلسفي وأخلاقي).
في ظل هذا الموقف الجلي من المذاهب الفكرية المعاصرة، يمكن أن نصف الدكتور توفيق أنه ذو توجه تنويري بامتياز.
وهذا مبرر لتساؤل جدير:
إلى أي مدى كان خطاب الدكتور توفيق السيف متوافقاً مع هذا التوجه؟ وما دلائل التزامه بمتطلبات ومقتضيات هذا الموقف الواضح والصريح من العلمانية التي يؤمن بها، والليبرالية التي لا يخشى وصفه بها؟ وفق المبادئ الأساسية لهذين المصطلحين.
إن المتتبع لطرح الدكتور توفيق السيف وهو طرح غزير عبر منافذ وقنوات متعددة (صحافة، تويتر، لقاءات تلفزيونية)، أظنه لن يقطع بإخلاص الدكتور توفيق لهذا التوجه الذي ينعت به نفسه، وذلك لأسباب متنوعة، ليست هي موضوع هذا المقال.
فالصبغة الدينية في قسم كبير من خطاب الدكتور توفيق لا تحتاج إلى كثير جهد لإدراكها، بل مقاربتها مع مواقفه على مستوى الممارسة، وهذا خلط لا يمكن القول بانسجامه مع التوجهين العلماني والليبرالي وفق مبادئهما.
يقول الدكتور السيف في واحدة من المناسبات الدينية العامة المنشورة مسجلة بصوته في حسابه في تويتر:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي أشرقت بنوره السماوات والأرض، والحمد لله الذي بنعمته صلح أمر الأولين والآخرين، اللهم صل على محمد، وعلى آله، اللهم صل على الحسين، وعلى أصحاب الحسين، اللهم صل على أحباب الحسين، ومن عرف الحسين من الأولين والآخرين...إلخ)
هذه المقدمة -ذات الأخوات- ليست لرجل دين متحنث في محراب مصلاه، يصدر ويرد فيما يأتي ويترك في جميع شؤون حياته عن نص شرعي، لا، هي للدكتور توفيق السيف وفي (مسجد) الرسول الأعظم وفي مناسبة دينية عامة.
هذه المقدمة ودلالاتها، شاهد أو مظهر على سبيل المثال لا الحصر لما يعيشه المثقف العربي من أزمة في التعاطي مع المصطلح على مستوى النظرية والتطبيق، وهو ما سأستل منه ما يعني موضوع المقال وهو الدكتور توفيق السيف.
إن هذه المواربة بين الديني والإرث الثقافي من جهة والمدني الحداثي من جهة ثانية، لدى غير واحد من المثقفين السعوديين، لأسباب مختلفة ومتنوعة، لا بد أن تترك أثرها على خطاب المثقف، فيأتي الخطاب في مجمله وقد بدت عليه آثار تداخل الذاتي بالمعرفي المهني، مدعوما بتأثير الجمهور الذي يفرض سلطته على القناعات الذاتية للمثقف؛ بل ومبادئه أحياناً، وقد رأينا نتيجة لهذا الانشطار الداخلي للمثقف تعدد خطابه حتى وصل حد الازدواج أو التقاطع أحياناً. وهذا ما يحتم على المثقف التمرد على السلطات السالبة كي لا تتأثر رؤيته بها أو ترتهن إلى شيء منها.
وبنظرة عابرة إلى نتاج الدكتور توفيق السيف وتحديداً من خلال مقاله الصحفي وما يطرحه في حسابه الشخصي في تويتر (اللذين يمثلان المظهر الآني لخطاب المثقف في ظرفنا الحالي، وهما الأسرع والأكثر تأثيراً في المتلقي) سنجد أنه لم يسلم من تأثير هذه المزاوجة. وأبرز تجل لهذا التأثير عند الدكتور توفيق كان في تباين خطابه.
فقد أخفق كثيرا -في تقديري- في التعامل مع خطابنا (الديني) على مستوى (النقد) رغم وفرة تناوله لموضوعات الجماعات والحركات الدينية.
والنقد الذي أعنيه ويقتضيه الظرف الراهن، هو الدخول في مفاصل هذا الخطاب والوقوف على مواطن وبؤر الأورام التي تحولت إلى ظاهرة واضحة للعيان، تتطلب من المثقف الوقوف عليها بوصفها أولية لكل مثقف ومفكر وباحث.
أننا لو أخذنا منحنى معيارياً على المستويين الكمي والنوعي لمقالات وتغريدات الدكتور توفيق السيف، لوجدنا أنه حقق درجة التميز في التوصيف والتنظير بل وفي النقد الشمولي للخطاب، ولكنه نقد يقف على مشارف الظاهرة وأعتاب المشكل فقط؛ ولا يلج نواتهما ومنطقة التهابهما من خلال رؤية تفكيكية يُعمل فيها أدواته النقدية المتميزة.
لقد نجح الدكتور توفيق؛ في إبهار المتلقي من خلال عمق طرحه ونفاسة فكرته؛ لكنه دون قصد؛ صرف نظر المتلقي في الوقت نفسه عن إحدى المهام الرئيسة المنوطة بمفكر ومثقف يقف في الصف الأول ضمن نخبة مثقفي المملكة العربية السعودية، فخسر مشهدنا الثقافي والفكري بل والاجتماعي وربما الديني قيمة نقدية ثمينة!
إن إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين منطلقات المثقف التي ارتآها؛ والمؤثرات الخارجية على نتاجه الفكري والثقافي، عامل رئيس في تركيز الرؤية وتحديد المنطلق واستحضار المسؤوليات وترتيبها وفق أولوياتها؛ إضافة إلى القرب من الاستقلالية التي تؤكد عليها جميع المفاهيم الفكرية الحديثة.
كانت هذه بعض أسئلتي للدكتور توفيق السيف، الذي أثق أن فضاءه الفكري والثقافي يتسع لها وأكثر، آملا أن تستفز ملكاته ومن ثم بقية طاقته، لنحظى بمكتسب آخر يضيف مزيداً من الألق الذي يليق به.