(أحسن الله عزاءنا جميعاً في فقيد الفن: المقالة، والسرد، والمسرح، والغناء.. الأستاذ سليمان الحماد - رحمه الله -).. كانت هذه رسالة - واتس أب - أتتني من أخي الكبير الشاعر عبد الله الزيد يوم الأربعاء 18 مارس 2015، وكعادة الأقدار معي في فَقْد من أحببتهم كنتُ خارج المملكة، ولم أتمكن من المشاركة في تشييع جنازته والصلاة على الميت الحاضر - يرحمه الله -.. ولأنني لا أزال بعيداً عن مكتبتي سيكون حديثي الآن شخصياً، وسأكمل لاحقاً بحديث أدبيّ حين أعود إلى أعمال سليمان الحماد الأدبية التي عايشتُ ما قبل أواخرها.
رحمة الله عليه، كل ذكرياتي معه طيبة، لم أر منه إلا الطيبة والخير حتى في اختلافاتنا، ولو أردت أن أكتب عن كل محطات الطيبة والخير التي وقف بها معي أو مع غيري أمام عيني لما كفاني كتابٌ كاملٌ عنه - وهو يستحق - غير أنني أخشى أن يتعارض بعضُ ذلك مع رغبته التي ظهرت جلية باختفائه المتعمّد عن المشهد الأدبي كتابة ونشراً وحضوراً، منذ ما قبل وفاته بسنوات.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
سألقي فقط بعض إضاءات سريعة على مراحل مفصلية من علاقتي به التي دامت عشرين عاماً تخللتها فترات تباعد عادة ما كانت بسبب سفري المتواصل ثم أصبحت بسبب غيابه عن مقعده في إدارة النادي الأدبي بالرياض، وهو أحد مؤسسيه وكان النادي عنوانه الدائم حيث لم يكن غيره يداوم نهاراً - بهدوء يشجعني على تكرار الزيارة! - ثم بعد هذا الغياب بدا غيابه كلياً وإصراره على اعتزال شامل - غير معلن - حتى في التواصل مع الناس الذين كانوا مقربين إليه، كنتُ إذا سألتُ أحداً عنه قال: أنا كنتُ سأسألك!.
كانت أول زيارة أقوم بها للنادي الأدبي في أحد نهارات العام 1995، وبدا لي النادي أشبه بالبيت الكبير المهجور برغم انفتاح بوّابته الخارجية وبابه الداخلي.. دخلتُ أتلفّت وأنادي: هل من أحد هنا؟ فسمعتُ صوتاً ضاحكاً: تفضّل.. تبعتُ الصوت لأدخل آخر غرفة في اليسار وأجد سليمان الحماد.. الذي أعرفه جيداً من صوره التي كثيراً ما كانت تظهر في الصحف.. والغريب أنه هو أيضاً عرفني، برغم أنني كنتُ لا أزال في بداياتي.
انعقدت صداقة بيننا منذ اللقاء الأول، وصرنا نلتقي بشكل متواصل - شبه يومي - حتى حين قدّمتُ ديواني الأول (الخروج من المرآة) عام 1996 لرئيس النادي آنذاك الشيخ عبد الله بن إدريس، وكان سليمان الحماد مديراً وأميناً لسرّ النادي، تعرّفتُ وقتها على الأمانة الشديدة التي يلتزم بها هذا الرجل.. فبالرغم من فرحته بالإطراء والإشادات التي حظي بها مخطوط الديوان من قِبل لجنة التحكيم رفض الحمّاد رفضاً قاطعاً أن يخبرني بأسماء أعضاء اللجنة التي شكّلها النادي لفحص محتوى الديوان قبل نشره.. قال لي بصريح العبارة: لن أخون الأمانة من أجل الصداقة، فاللجنة سريّة وسأبقى أميناً على سرّيتها!
مع أنني لم أفهم حتى اللحظة لماذا كانت لجنة التحكيم سرّية، إلاّ أنني فهمتُ تماماً مدى الأمانة التي يلتزم بها سليمان الحماد، وكانت أمانته تتأكد لي مع كل موقف، فالصحبة بيننا لم تكن عادية، بل كانت حميمة لفترة من الزمن.. فهو الأديب الوحيد الذي كان يأتيني إلى شقتي المتواضعة جداً تلك الأيام، وهو الصديق المميز في السفر، إذ جعلني أسافر إلى مدن بعيدة ودول مجاورة برّاً - بالسيارة - لأنه كان يخشى ركوب الطائرة!
ثمة شهادات أحبّ أن أقولها للناس بعد رحيل هذا الرجل، وإنني أشهد الله عليها، إذ كثيراً ما يلتبس التدين بالحالة المزاجية أو المجتمعية عند معظم من عرفت، إلاّ سليمان الحمّاد، فو الله لم أره يفوّت فرضاً من الصلوات الخمس في أيّ مكان كنا، ولم أره يفطر نهاراً في رمضان حتى لو لم يتح له أن يتسحّر كما يجب، وحتى عندما يرتفع السكّر في دمه كان يصبر ويتحمّل ويؤجّل أخذ الحقنة الضرورية لما بعد دخول وقت الإفطار.
شهادة أخرى، فنية هذه المرة، أحب أن أقولها.. فقد استأذنته في ذكرها ذات يوم ولكنه قال لي: اذكرها بعد أن أستقيل من النادي، أو بعد وفاتي.. فيا سبحان الله، كنتُ أنا من يلوّح بالسبق في الوفاة وكان هو يدرك بأنه الأسبق.. وشهادتي هي: إنني لم أستمع، في حياتي كلها، إلى عازف ومطرب يتقن أداء أعمال الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب كما كان يفعل - نادراً - سليمان الحماد.. ولم يكن على تواصل مع آلة العود وأجواء الغناء منذ سنوات طويلة، ولكن حينما يجد العود بين يديه والمكان مهيأ للطرب.. يجعلك تستحضر عبد الوهاب.. أضف إلى ذلك أنه.. عندما يعزف لحناً من ألحانه هو، وهي قديمة وقليلة ومنها لحن واحد قال لي إنه كان يريده للفنان الراحل طلال مداح غير أنه لم يتم؛ يجعلك تبصم بأنك تستمع إلى أسلوب من نوع خاص لا يمكن أن يكون إلا من ملحن ومطرب كبير، وتستغرب لماذا ينحّي هذا الأديب موهبته في التلحين والعزف والغناء زمناً طويلاً؟
قبل سنوات، أحسبها قليلة، قرأتُ في جريدة الرياض خبراً عن تعرض الأديب سليمان الحماد لأزمة صحية، وأنه منوّم في أحد مستشفيات الرياض، فاتصلتُ بأستاذ الأجيال الشاعر سعد الحميدين (مدير تحرير القسم الثقافي بجريدة الرياض ذلك الوقت)، مستفسراً عن اسم المستشفى فأجابني بأنه لا يعرف لأن الخبر أتاه ناقصاً اسم المستشفى، ووعدني بأنه سيستفسر ويخبرني.. هنا لا بدّ أن أتوقف بشهادة أقولها عن سعد الحميدين، بخاصة وقد استقال من عمله الصحفي وإدارة التحرير الثقافي منذ أكثر من عام.. فسعد الحميدين - وربما هو نفسه لا يدري حتى اللحظة أنني أنا! - كنتُ أتصل به وأنا صغير جداً ولا أقول اسمي فقط كنتُ أستفسر منه عن كيفية الحصول على بعض الكتب التي كنتُ أقرأ أخباراً عنها في الصحيفة، وكان كل مرة يطلب مني رقم هاتفي أو عنواني ليطلب من المؤلف إرسال نسخة إليّ..(!)؛ فقط سعد الحميدين كان يفعل ذلك - ويبدو لي أنه التزامٌ إنسانيٌّ منه لصالح كل شاب يبحث عن معرفة ويحتاج مساعدة ثقافية - باهتمام منقطع النظير من بين مديري تحرير الأقسام الثقافية للصحف في ذلك الزمن، (وأنا الشاهدُ الخفيُّ عليه)!.
وبعد، فقد أخبرني الأستاذ سعد الحميدين عن اسم المستشفى، وذهبتُ مرة ومرتين، وفي الثالثة قال لي الأستاذ سليمان الحماد بأنه سيخرج غداً.. ولكنني زرته بعد غد ووجدته على السرير نفسه وحيداً ككل مرة وشعرت بأنه يفضّل أن يبقى وحيداً فاحترمتُ رغبته وودعته وسافرت.. وكانت تلك آخر مرة ألتقي به.
لن أطيل أكثر حتى لا أقول ما لا لزوم له، مع أن كل ما أتذكّره من هذا الرجل طيبةٌ وخيرٌ، فقط سأشكر أسرة النادي الأدبي بالرياض حالياً لأنها أقامت أمسية عنوانها (ليلة وفاء عن أ. سليمان الحماد - رحمه الله -)، وأتأسف أنني لم أتمكن من الحضور أيضاً بسبب سفري نفسه.. وأختم بموقف فيه من الطرافة ما يصدمني بعظمة المحبة التي افتقدتها بفقد هذا الإنسان.. ففي يوم كنا معاً في مزرعته ما بين ضرماء والمزاحمية، تعثرت قدمي في مجرى ساقية وانكسر مفصل الكاحل، فلم يفارقني سليمان الحماد في المستشفى ذلك اليوم، وكانت إحدى الممرضات تخبرني بأنه كان قلقاً عليّ أكثر من اللازم.. قالت (أبوك هذا يحبّك جداً) فرددتُ عليها متهكماً: (هذا صديقي ومثل أخي الكبير.. هل بنظرك أنا في عمر ابنه؟!) قالت بحسم: (مش لأنك صغير، خوفه عليك خوف أب على ابنه).. رحمة الله عليك يا أكثر الأصدقاء طيبة ومحبة وإخلاصاً.
ffnff69@hotmail.com