تدّعي أنك لستَ مستعدًا للرحيل في الوقت الذي أنهيت فيه حزم أمتعتك، تاركًا معطفك الذي ملأت نسيجه الكرات الصغيرة بفعل الاهتراء، تمامًا كالتي كانت تغطي بشرتك أول وصولك إلى هذه الديار. أينما ذهبتَ، تترك خلفك قضمةً من روحك المشوّشة، ليس لأنك تقصد أن تعكر صفاء هذا الكون السائل، ولكن لأنك تسعى باحثًا عن « جزيرة الكنز» وكل ما تحصل عليه هو «ملاعق القهوة»! تملأ جيبك بأكياس السكر الصغيرة التي تختلسها من طاولة المقهى البائس الذي تحتسي فيه شايك، دون أن تجد سببًا يدعوك لفعل ذلك، ثم تبتسم لنفسك في المرآة قائلًا إنك تخبئها للأيام المرّة!
تفتح دفترك الصغير الذي تكتب فيه عناوين قابلة للضياع، ستنكرها الجغرافيا كما أنكرتك يومًا. تبدأ بشطب أسماء المدن التي لفظتك وتعدّ قائمة لأخرى لن تتورّع عن فعل ذلك، فتقف على الحدود رافعًا إبهامك، لا أحد يكترث بك ولا بإبهامك! تنام على قارعة الوقت بانتظار الوقت الذي يتدلّى ضجِرًا سقِمًا من انتظاراتك!
في الليل البارد تسمع قرقعة عظامك وخشخشة السعال المحبوس في صدرك وتنتظر الكابوس الذي ستراه في منامك بفارغ الصبر وتضحك لأنها جميعًا تؤنس وحدتك. لم يعد لغيمة الكدر التي تعلو وجهك في كل مرة تطرق فيها بابًا، لم يعد فيها مكانٌ لكدرٍ جديد، وحين تهش عليها بيدك لا يتساقط منها سوى بخارٍ ثقيلٍ لخيبة كثيفة!
تعرف أن المرايا صارت ترفًا فلا تحتفظ بواحدةٍ، وتكتفي بإلقاء نظرة على مظهرك المجعد وثيابك المكرمشة في فنجان القهوة، تفزع منك، فتخربش صورتك بملعقة البلاستيك الرديئة موهمًا النادل أنك تقلّب السكر في قهوتك السادة. تسير مكتفيًا بصداقة حذائك الذي لا يخون، وضغط دمك الذي لا يلين، والندبة الحمراء في عينك تلك التي ظلت أثرًا لنجاتك من موتٍ ما، وأقراص دوائك البيضاء التي لا تتلون! احمل بقاياك هذه وامض!
إلى وداعٍ أخير...
«وداعًا للحياةِ التي أعيشها،
والعالم الذي أعرفه،
وقبلوا التلال نيابة عني، مرة واحدة
أستعد الآن للذهاب!»
- إميلي ديكنسون
بثينة الإبراهيم - القاهرة