كان الحديث عن السياسة من الأحاديث الشبه محظورة على المواطن العربي وكان لذلك الحظر ما يبرره عند صانع السياسة كما يعتقد هو؛ إذ أن السياسية تؤسس و تتطور وفق ما يُخفى منها أكثر مما يُعلن عنها، و لذا فكل تحليل يُبنى من قِبل ذلك المواطن وفق ذلك المُعلن غالبا ما يقود إلى الاستقراء الخاطئ؛ وهو ما قد يٌنتج فجوة بين ما يعتقد المواطن و بين ما يعتقد أصحاب السياسة، والفجوة بين المعتقدين غالبا ما يجلب الضرر.
ولعل الصورة السابقة لتعامل صانع السياسة مع المواطن لها من يؤيدها و لها من يعترض عليها.
وقبل أن نعرض الرأيين علينا أن نتوقف أمام مفهوم «السياسة» ،فلم تعدّ السياسة اليوم بمثابة الخط الأحمر الذي يتجنبه المواطن اختيارا أو جبرا،إنما أصبحت جزءا من الوعي الثقافي للمواطن و جزءا من الوعي الدفاعي الذي يًؤسس في ضوئه مفهوم المواطنة و جزءا من تفاعله العولمي.
وخطورة هذا التفاعل يكمن في أنه موجه لرأي المتفاعل معه، وذلك التوجيه غالبا ما يكون مقصِدا لمًصدّر أساس ذلك التفاعل.
كما أن مفهوم السياسة قد تغير في خضم التوسع الإعلامي المكشوف الذي رفع الستار عن الأفكار المختبئة هنا أو هناك، وأصبح وصول أي فرد للأفكار السرية في السياسة القومية أو العالمية لا يعتريه أي حواجز.
إضافة إلى أن الصوت المضاد للسياسة المحلية أصبح عبر الانفتاح الإعلامي يمتلك القدرة على اقتحام المسكوت عنه و التلاعب بتأويله وهذا التلاعب يفتح باب إفساد التصور الآخر المبني على التلاعب بقواعد التأويل و بالتالي تشكيل الموقف الخاطئ.
فمن يؤيد «نخبوية السياسة» يرى أن هذه طبيعة السياسية فمجهولها أكثر من معلومها، وأن السياسة هي نص يتميز بخلفيات متنوعة و متشابكة و تفكيك رموز تلك الخلفيات يحتاج إلى ثقافة خاصة و ذكاء نوعي، وتحولها إلى حديث شعبي يضرّ بالسياسة أكثر مما ينفعها؛ فقد يٌثبت حاصل الاستقراء الخاطئ أو المنقوص و يُشجع على تداول الأفكار السياسية الفاسدة.
كما أن المواطن عندما يتناول السياسية يتناولها من خلال ذاته أو الذوات المشابه له ومن خلال أحواله أو الأحوال المشابه له أو ظروفه أو الظروف المشابه له، في حين أن تلك المعايير الثلاثة-الذات و الحال و الظرف-ليست هي فقط المتحكمة في منحنى الواقع السياسي ،فثمة أشياء تؤثر في تشكيل منحى الواقع السياسي و تتحكم في معاييره و مؤشراته.
كما أن تلك المعايير تقفز فوق فكرة ضرورة الاختلاف، أي أن فكرة الاختلاف وفق تلك المعايير عادة ما يكون اتجاهها حادا في تصور المواطن و أحاديا يربطها بمبدأ القوة والاستقلالية في اشتراطية تقوم على كلما توسع الاندماج مع الاختلاف ضاقت حدود قوة و استقلالية مبادئ السياسة الخاصة؛ لأنها تتلاعب بمركزية التأثير.
إضافة إلى أن السياسة لا تخضع للأحكام الأخلاقية التي قد لا يتجاوزها المواطن العربي في تقييمه للمواقف السياسية أو تحليله لها، وهذه القاعدة المثبت عليها طبيعة الأحكام ذات السمة الشعبية تتقاطع مع فعاليات السياسة التي لا تعتمد على الأحكام الأخلاقية إلا إذا توافقت مع مصلحتها ،ومتى ما اعترضت طريق مصلحتها تخلت عنها؛ من باب «الضرورات تُبيح المحذورات» ،وبذا فالأخلاق في السياسة محمودة و ليست واجبا، لتُصبح المصلحة بديلا بالضرورة للأخلاق.
وبذلك فقواعد التعامل مع المعطى السياسي و خلفياته و تحالفاته تختلف عن القواعد الأدبية التي تربى عليها المواطن و أصبحت مقياسا لقيمتي الشرف و المثالية ،وهذا الاختلاف قد يدفع المواطن إلى تقييم خاطئ لنوع و قيمة الموقف السياسي الحاصل، وهو ما قد يُسبب في وجود فجوة أو تصادم بين مواقف سياسية دولته و مبادئه.
كما يرى مؤيدو «نخبوية السياسة» أن المواطن يُرجح في العادة التفكير و السلوك الداعمين لقيمة واضحة و مباشرة، وهذا الترجيح الذي هو جزء من الشعبية التداولية للمواطن يتقاطع مع فعاليات السياسية؛ لأن مفهوم «القيمة» يختلف من الفكر السياسي عن الفكر الشعبي من حيث «البساطة و التعقيد» ،كما أن روابط القيمة و معاييرها تختلف عن الفكرين ،باعتبار السند الذي تتقيد به الفكرين؛ فالمصلحة هي التي تشكل جذر القيمة في السياسة و الأخلاق هي التي تشكل جذر القيمة في الفكر الشعبي.
ولذا فخطر «شعبنة السياسة» أكبر من فائدتها.
أما من يرى ضرورة «شعبنة السياسة» فهو يرفض إبعاد المواطن عن السياسة و يطالب باندماجه في الفكر السياسي فلديه العديد من الأسباب التي تدعم وجهة نظره.
فهو يرى أن السياسة كونها اليوم جزء من كل وأنها أصبحت مؤثِرة في تشكيل المنظومة الكلية لبناء المواطن و نهضته أو رجعيته وهو ما يجعلها فاعل تأثير في حياة المواطن.
ولذا فمن حق كل مواطن أن يفهم أبعاد و خلفيات السياسة التي تُؤثر على حياته و من حقه أيضا أن يكون مساهما في صناعة القرار السياسي لمجتمعه توافقا مع النظريات السياسية التي أعطت الفرد حق التدخل في الإصلاح السياسي ،لكونه فاعل تغير تخضع له حياة الفرد و الجماعة وهو صاحب المقام الأول في الضرر أو النفع الواقع من الاضطرابات السياسية أو تغييرها أو تطويرها أو إصلاحها.
كما أن بناء ثقافة المواطنة، و المقصود «بثقافة المواطنة» «هي مجموع المبادئ و الأفكار المشاعر و المواقف التي تُشكل بصورة قصدية على أسس سياسية خاصة» بذلك فالمواطنة «بناء معلوم وفق معلوم».
ولذلك لا يمكن أن تتحقق-المواطنة- إلا عبر اندماج المواطن في السياسة من خلال معرفة مؤكدة لا تقبل القسمة على الظن و التأويل و معايشتها، فبقاء السياسة في منطقة المجهول بعيدا عن المواطن لا يُمكن أن توفر للمواطن الخلفية الثقافية التي يبني من خلالها مبادئه و أفكاره و مشاعره و مواقفه المتوافقة مع أسس سياسة بلاده و الداعمة و الحامية لها.
والاندماج و التعايش هما أمران لا يُمكن أن يتحققان إلا من خلال تفاعل المواطن مع سياسة بلاده و أبعاد تلك السياسة و خلفياتها و مواقفها مع السياسات الأخرى، وهو ما يتطلب إعادة النظر في العلاقة التقليدية بين المواطن و صانع السياسة، وبناء علاقة تشاركية بينهما.
إضافة إلى إن إعطال وعي المواطن سياسيا يضر بلاده أكثر مما يُفيدها؛ لأن ذلك التعطيل يدفعه إلى بناء تصورات سلبية نحو سياسة بلاده لأنه يتخذ من ما يروّج و ما يُشاع حقا و باطلا قاعدة لبناء تلك التصورات في غياب أي مرجع تصحيحي سواء بالأصل أو بالأثر الرجعي.
والمهم هنا المتعلق بهذا المجال أن الانفتاح الكبير للقنوات الإعلامية التي لا يُمكن لأحد أن يحجبها أو يسيطر على رؤاها و اعتقاداتها و مواقفها،
جعلت المعلومة السياسية المكسوة بإيديولوجية مُصدِرها شائعة التداول، و التحليل .
والصمت و التجاهل في هكذا مقام لا يقتلان الخطأ الشائع إنما يؤكدان صحته، أو على أقل تقدير من الضرر يحولانه إلى قاعدة بنائية للتفسير و التأويل الفاسدين.
كما أن التوسع الشعبي عبر مواقع التواصل الاجتماعي ،وهو توسع صاحب سهولة تداولات الأفكار السياسية ذات الأكسية الأيديولوجية المختلفة و المتقاطعة التي يكثر باطلها و زيّفها و يقلّ حقها و حقيقتها، هذه الثورة السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي و القنوات الفضائية المفتوحة بغثها و سمينها والتي لا يمكن لأحد من حجبها والتي أصبحت فاعل لا يُستهان به في صياغة الرأي العام، مع غياب للثقافة السياسية للمواطن قد تجرفه نحو تأليف المواقف المعادية للبلاد و تشكيل التحزبات المتناقضة مع مبادئ سياسة بلاده، فالجهل يقود إلى الضلال.
- جدة