في قصتها القصيرة (كلمتان) تصف لنا الروائية إيزابيل اللندي، وبطريقتها السحرية والغرائبية سحر وقوة الكلمات ومن خلال قصة (بيلسيا) التي كانت تجيد الكتابة واحترفت بيع الكلمات في لا نهائية عالم لم يكن يقرأ.
بخمسة (سنتافو) كانت تقدم أشعاراً مرتجلة لمن يطلبها وبسبعة كانت تحسن من نوعية الأحلام وبتسعة تكتب رسائل للمحبين، وباثنتي عشرة كانت تعلم شتائم جديدة، أما من يشتري منها بخمسين سنتافو فكانت تهمس له وفي أذنه مباشرة بهدية خاصة.. وهي كلمة سرية لها القدرة على إبعاد الكآبة.
وتقول القصة أن (جنرالاً) تعب من الحرب وأراد شراء السلام بأي ثمن وكان يعرف أنه ما من شيء أقوى من البندقية سوى الكلمات.. لكنه لم يكن يقرأ أو يكتب لأنه لم يكن تعلم سوى الحرب، ومن أجل ذلك أطلق رجاله للبحث عن هذه الساحرة (بيليسيا) وإحضارها من أي مكان وبأي ثمن.
وانطلق العسكر يزرعون الفوضى ويذرعون كل الاتجاهات بحثاً عنها حتى وجدوا تلك الفتاة الضئيلة والنصف جميلة وسط فوضى الفراغ.. ثم أخذوها بما يشبه الاختطاف للجنرال المتعب.
وكتبت له مائة كلمة ليشتري بها السلام وقلوب أتباعه وهمست له وفي (أذنيه) مباشرة بهديته الخاصة.. كلمتان سريتان يستخدمهما متى شاء وغادرت.
هذا (الجنرال) الذي لم تهزمه الحرب طوال أيام نضاله الطويلة هزمته هاتان الكلمتان وجعلته يهذي.. كان يهذي وهو نائم وهو على جواده.. وكان يشتّم في هاتين الكلمتين روائح النعناع وليل الحرائق المدارية وغبار المعركة التي لن يكسبها مطلقاً.
وأدرك رجاله اللعنة التي أصابته.. وعرفوا مصدرها ومرة أخرى انطلقوا ومن تلقاء أنفسهم هذه المرة.. انطلقوا يبحثون عن تلك المرأة الضئيلة بائعة الكلمات في تلك الجغرافية الشاسعة حتى وجدوها وكأنها كانت تنتظر لأنها كانت تعرف أنهم سيأتون لإحضارها.. كانت تعرف سر الكلمات التي وهبتها للجنرال المتعب.
وحتى دون أن يسالوها فقد امتطت أحد الجياد ومضت خلفهم.
وأوقفوها أمام (الكولونيل) العجوز وقالوا وهم يسددون السلاح إلى رأسها: أعد لها كلماتها أيها الجنرال.
غير أنهم أدركوا أن الوقت كان قد فات وهم يرون عيني الأسد الضاري وقد تحولتا إلى بركتين من الدموع ورأوها تخطو إليه وتمسك بيديه ويمضيان.
وتنتهي القصة التي لخصت ببراعة مدهشة قوة وسحر الكلمات.. الكلمات القادرة وحدها على تغيير العالم والمصائر وجعل العالم أكثر فتنة.
ومهما تغير العالم فإن قوة الكلمات لن تنتهي.. الكلمات هي التي تجعل من يدركون سرها وسحرها مختلفين عن الآخرين.. ويمنحهم البصيرة المختلفة وربما الغنائم أحياناً ولكنه وأعني الكلمات في الأكثر لا تهب سوى العذابات.. عذابات الوعي بغصات الحياة.
يقول (أنطونيو سكارميتا) في روايته الرائعة ساعي بريد نيرودا (ليس هناك من مخدر أسوأ من الكلام.. إنه يجعل نادلة حانة ريفية تشعر وكأنها أميرة فينيسية).
ويذهب أبعد، وهو يقول بطريقة تحمل الكثير من الإيحائية على لسان المرأة التي تحذر ابنتها من فتنة الكلمات: «كل الرجال الذين يلمسون بالكلمة أولاً يصلون في ما بعد إلى اللمس بعيداً بأياديهم».
وبالطبع ليس لكل الكلمات ذات القوة، فكلمة قف قد تنقذ حياة شخص من أن تدهسه سيارة مسرعة، ولكنها قد تغير مسار آخر نحو الضياع.
والكلمات المختلفة لا تصنعها سوى القراءة..القراءة والوعي هما ما يصنع كلمات تجعل جنرالاً يترك السلاح ويمتهن الحب.. وتجعل شعوباً تترك الاقتتال وتنحو نحو فرح الحياة.
تعزية
- لنا ولك يا نهر النيل الذي فقدت وفي شهر واحد اثنين من أجمل أبنائك الذين غنوا للحب والحرية والحياة وللون الأسمر لون إفريقيا.. عبد الرحمن الأبنودي ومحمد الفيتوري والذي أنشدَ:
عمرو العامري - جدة