شغف الشاعر المصري الراحل عبد الرحمن الأبنودي (11 أبريل 1938 - 21 أبريل 2015)، منذ الصغر بتغريبة «بني هلال» التي عرفت لاحقاً بالسيرة الهلالية، وهي ذاتها السيرة الشخصية لأبي زيد الهلالي فارس بني هلال المغوار عامر بن هلال بن حامي الهلالي تلك الملحمة الشعرية التي تُعد من أضخم الملاحم الأدبية في التاريخ العربي حتى أطلق عليها اسم «إلياذة العرب»، والتي تُعد من أهم مصادر الثقافة الشعبية في القرى والمناطق الريفية في دول عربية عدة بخاصة في صعيد مصر مكان ولادة ونشأة الشاعر الأبنودي.
وتضم السيرة مليون بيت من الشعر تحكي تغريبة قبائل بني هلال وارتحالهم من أرض نجد إلى مصر وصولاً إلى تونس، بما تضمنته من أحداث درامية وملحمية وفلكلور شعبي يمجّد قيم الشجاعة والبطولة والشرف والنخوة حتى صارت شخصياتها مضرباً للأمثال، وهي تتفرع إلى قصص كثيرة كقصة الأمير أبو زيد الهلالي وقصة أخته شيحة المشهورة بالدهاء وسيرة الأمير دياب بن غانم الهلالي وقصة زهرة ومرعي وعزيزة ويونس ويطلق على المهتم بهذه السيرة «مضروب»، وتبدأ روايتها بمدح الرسول عليه الصلاة والسلام والحث على الزهد وطلب المغفرة.
وقد نُسجت علاقة الأبنودي أو «الخال» كما اشتهر بالسيرة الهلالية منذ أن اخترق وعيه المتفتح على الحياة، وهو يجوب ساحات الموالد ذات زمن قصي صوت الحكواتي بصندوقه الخشبي العتيق وهو يروي بعض فصولها.
غير أن تصاريف الزمن وتغييب الموت لرواة السيرة الهلالية الواحد تلو الآخر أقلق الأبنودي الذي كانت توثقت علاقته بها وأصبح من أشهر شعراء العامية الأمر الذي قاده لتكريس جزءاً كبيراً من وقته واهتمامه في سبيل جمع شتاتها على مدى عقدين من الزمن، تمخض عنها خمسة مجلدات هي: «خضرة الشريفة»، وتتضمن حكاية رزق بن نايل بن عامر بن هلال زعيم الهلاليين وما تعرض له من متاعب، وكيف أعجبت به خضرة بسبب ما تمتع به من صفات جمة كحسن الخلق والشهامة، و»أبو زيد في أرض العلامات»، وهو مجلد يروي كيف عاشت خضرة خمس سنوات تحت رعاية الملك فاضل وما حدث لأبي زيد وما ناله من مركز، ومجلد «مقتل السلطان سرحان»، وفيه يتنكر أبو زيد في زي شاعر ربابة ليدخل قصر حنظل، وكيف اكتشفت ابنة السلطان حقيقته، وأفشت أمره إلى والدها، وكيف ألقى القبض عليه، وقيد بالسلاسل ورمي في السجن في انتظار أن يعدم.
أما مجلد «فرس جابر العقيلي»، ففيه يروي كيف قاتل أبو زيد الهلالي الفرس وبطولاته في جهادهم التي تناقلتها الأجيال، وكيف يحتال الدرويش لدخول جناح الأميرة ليعمل لها الحجب والتعاويذ.. وفي «أبو زيد وعالية العقيلية»، يتم سرد حكاية حياة عالية، وما تتمتع به من خصال، وإصرارها على القضاء على أبي زيد الهلالي، والمأدبة التي أولمها والدها السلطان جابر العقيلي لأبي زيد ومرافقيه، ومحاولة أخذ فرسه بالحيلة بعد أن وضع في الطعام مخدراً قوياً لينام الحراس، لكن أبو زيد يكتشف الحيلة ويتمكن من الفرار خارج المدينة.
وقد طارد الأبنودي خيوط هذه الملحمة الشعرية للسيرة الهلالية، واقتفى أثر مردديها متنقلاً بين صعيد مصر والسودان ليتمكن من رصدها ونقلها من الذاكرة الشفهية الآخذة في الاضمحلال إلى اللغة المدونة والمكتوبة حفاظاً عليها من الاندثار.
كما اشتغل أيضاً على تحقيق حلمه في إقامة متحف للسيرة الهلالية تولت إنشاءه وزارة الثقافة المصرية في مسقط رأسه في قرية أبنود بمحافظة قنا، وهو يُعد الأول من نوعه وكان من المزمع حسب الأخبار افتتاحه في 26 أبريل من هذا العام.. ويقع المتحف على مساحة تقدر بـ870 متراً، ويحوي بحسب المصادر عدداً كبيراً من الكتب والأبحاث، وأشرطة كاسيت للرواية الأصلية للسيرة الهلالية تصل إلى «132 شريطاً»، كما يضم المتحف 9864 كتابًا، منها 6917 كتابًا خاصاً بالمكتبة، و2447 كتابًا مهداة من الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، والكاتب جمال الغيطاني، و500 كتاب مهداة من الهيئة العامة للكتاب وتعليقات الأبنودي عليها، وصوراً فوتوغرافية للشاعر الأبنودي ذي البصمة الشعرية الشعبية الخاصة من أحقاب زمنية مختلفة، وهو بين رواة وشعراء السيرة الهلالية.
وقد أعلن وزير الثقافة المصري مؤخراً الدكتور عبد الواحد النبوي عزم وزارة الثقافة المصرية تغيير اسم المتحف من متحف «السيرة الهلالية»، إلى متحف «عبد الرحمن الأبنودي»، تقديراً لما بذله من جهود في هذا المجال وعزمهم افتتاحه في الأيام القليلة المقبلة بعد تأجيل طال أمده على أمل شفاء الأبنودي!
وما يهم في الأمر كله هو أن إقامة متحف يُعنى بالحفاظ على شطر مهم من التراث الشعبي المروي الموشك على الاندثار أمر في غاية الأهمية ويستحق الثناء ويحسب للقائمين عليه وهو ما يجعلنا نتمنى من وزارتنا للثقافة أيضاً أن تحذو حذو شقيقتها المصرية في إقامة متاحف من هذا النوع تحفظ تراثنا الثقافي الشعبي الآيل للأسف للاندثار مع رحيل حامليه وتشجيع مزيدٍ من الباحثين والمهتمين على القيام بتقصيه وجمعه.
شمس علي - الدمام