وبعد الحديث السابق عن انقسام المفكرين وفلاسفة القانون إلى المعسكرين الكبيرين المشروحين بتبسيط في المقالة السابقة، يحسن بنا أن نتحدث عن تقسيم آخر هام أيضًا وملامس لحديثنا عن الأمن، وهو تقسيم العمل في دائرة فلسفة القانون الواسعة، حيث نجد في داخل هذه الدائرة دائرتين مترابطتين إن صح التشبيه، الأولى هي دائرة القوانين، والثانية هي دائرة تطبيق القوانين.
في الدائرة الأولى يدور الجهد حول تحديد المفاهيم الكبرى ذات العلاقة، كمعنى القانون، ومن أين وكيف تنشأ وتأتي وتُخلق القوانين، والفرق بين الحق والقانون مثلاً من جهة، والفرق بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي من جهة ثانية، وهو الفرق الذي أوضحناه بإيجاز في المقالة السابقة.. وكمعنى العدالة والمساواة ومعاييرهما وشروطهما... إلخ.
وفي الدائرة الثانية ينصبُّ التركيز على (تطبيق القانون) بكل ما تعنيه كلمة «تطبيق» من معنى، ومن ذلك الآليات والكيفيات التي يتم من خلالها نقل القوانين من صورتها النظرية إلى ساحة التطبيق الواقعي، وكمهمات وواجبات كل من القضاة والمحامين والمحققين ومن يدخل معهم من العاملين بأي شكل يلامس القانون والعمل من أجل خدمة العدالة وتحقيق الأمن.
ومن المهم في موضوعنا (فلسفة القانون) الإشارة إلى علاقة القانون بالأخلاق، خصوصاً في عصورنا المتأخرة، فعندما صرَّح نيتشه وغيره من الفلاسفة بكثير من الآراء المدويّة التي تقصي الميتافيزيقي أو تضعف الاهتمام به، وهو ما يسميه نيتشه مثلاً (إعلان موت الله)، نتج عن ذلك تراجع الأخلاق في نظر الكثيرين، خصوصاً حين ذاعتْ وانتشرتْ فلسفاتهم المادية والعدمية المختلفة، وهذا يتناغم في نظري مع عبارة قرأتها قديمًا في رواية الإخوة كارامازوف، التي كتبها أحد أدباء روسيا، وهي: (إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح)، وهناك من يزيد على ذلك بربطٍ فيه شيء من المنطقية في ظني، وهو أن ولادة الدول العلمانية الحديثة ساهمت مع الفلسفات المادية في انزواء (الأخلاق) في زوايا خاصة جدًا وضيقة جدًا ترتبط بالضمائر فقط، ولا تخرج عنها إلا ما ندر إلى الآفاق العامة الواسعة، ومن ذلك كله أصلُ إلى ما أريد، وهو أن وجوب الاهتمام بالقوانين وفلسفتها تضاعف أكثر وأكثر في عصرنا الحديث، لتخضع لسيطرتها الأخلاق بنوعيها، أي أخلاق الأفراد وأخلاق الجماعات.
فمن هذه التحوّلات القويّة في العصور المتأخرة، زادتْ حاجة البشرية إلى القانون في كل شيء، فدخلتْ القوانين والقواعد التنظيمية شيئاً فشيئاً إلى كل شيء، حتى اجتاحتْ وسيطرتْ على جميع الميادين العملية والاجتماعية تقريبًا، فخضعتْ لها جلُّ ممارسات وسلوكيات البشر.
وهذا الكلام السابق في الحقيقة يمهد الطريق أمامنا إلى سؤال رئيس من أكبر الأسئلة عند فلاسفة القانون، وهو: لماذا نحتاج إلى القانون؟ أو قلْ: ما الغاية من القانون وما هي أهدافه؟
أعتقد أن أعظم صفة لفلسفة القانون هي أنها فلسفة تبحث في الأساس عن غاية القانون، شأنها شأن بقية الفلسفات المماثلة، كعلم أو فلسفة الجمال الذي من أبرز غاياته التمرين والتدريب على تذوق الجمال مثلاً، وتوضيح مقاييس ومعايير التذوق الصحيح للجمال...، وكذلك فلسفة الأخلاق التي تهدف قبل أي شيء إلى ضبط سلوكيات الأفراد في مجتمعاتهم، وتحديد مقاييس التفريق السليم بين الخلق الصالح والطالح، والاجتهاد في المقارنة والمفاضلة بين المرجعيات والمرتكزات الأخلاقية المختلفة... إلخ.
والحقيقة أن فلاسفة القانون رغم كثرة كلامهم واختلاف أساليبهم في هذا متفقون على أن أهم الغايات الأساسية للقانون تحقيق العدالة، وعلاقة تحقيقها بأمن واستقرار ومصلحة المجتمع، ومن أهم غايات القانون أيضاً تحديد المعايير والضوابط والمقاييس التي يتم من خلالها اختيار القوانين الأفضل والأعدل والأكمل والأقرب لتحقيق تلك العدالة المنشودة، وبالتالي تحقيق (الأمن) في المجتمع الذي توضع فيه.
ولكن الكلام السابق لا يكفي؛ لأنه سيطرح بالضرورة أسئلة هامة كبرى، من أبرزها مثلاً: (ما هو العدل؟) وهل له تعريف واضح قطعي يتفق عليه الكل؟!.
والإجابة عندي هي أني أتفق مع الغالبية على أن تحديد معنى دقيق واضح للعدل يتفق عليه الجميع صعب أو شبه مستحيل، بل مستحيل في غالب الأحوال والأحيان، وهذه هي المعضلة الضخمة.
ولا أظن أن أحدًا من المنصفين المتمعنين يخالف في هذا؛ بل إني أرى أن هذه هي أم الإشكاليات في هذا الشأن، والسبب الكبير لكثير من متاعب وصراعات البشر؛ لأن كل جماعة وكل إنسان يرى العدل من منظوره عطفًا على طريقة ونتيجة تفكيره، فماهية العدل تتأثر بالإيديولوجيا المسيطرة على شريحة أو غالبية من الناس مثلاً في مجتمع ما.. فغالب البشر يرون العدل بعيون الانتماء والحماس والتعصّب الناتج عنه، لا بعيون الحياد والهدوء والإنصاف.. الرأسمالي له نظرة في العدل تنسجم مع أفكاره ورغباته، والاشتراكي له نظرة معاكسة مضادة متصادمة مع نظرة الرأسمالي.. ومعنى العدل عند المتديّن أو المثالي يختلف عن معناه عند المادي أو اللا ديني في كثير من الأحيان.. والمؤمنون بالله يختلفون أيضًا في النظر إلى العدل باختلاف معتقداتهم في الإيمان بالله.. أي باختلاف الأديان والمدارس العقائدية والمذاهب التي ينتسبون لها أو يتأثرون بها.. وهكذا قسْ على ما سبق كلَّ ما تريد من انقسامات البشر المشابهة وغير المشابهة.
ومن النقطة السابقة أنتقل إلى نقطة أخرى هامة جدًا، وهي اعتقاد البعض أن فلسفة القانون لا تنشغل إلا بالقانون فحسب، وهذا صحيح؛ ولكن التعبير الأكثر دقة هو أن نقول: موضوع فلسفة القانون في كثير من الأحيان ليس القانون فقط، بل (القانون العادل)، فغالب الفلاسفة منذ سقراط بل من مرحلة ما قبل الفلسفة أو ما قبل سقراط إلى اليوم، يبذلون من الأوقات والجهود الكثير للوصول إلى الحياة الفاضلة والمجتمعات العادلة.. وهذا في النهاية لا يمكن تحقيقه إلا بتحقيق أمور كثيرة، يأتي على رأسها العدل والمساواة والقوانين العادلة المنصفة.
والبحث عن هذه (القوانين العادلة) أدخل فلاسفة القانون ومفكريه وعلماءه من أبواب عديدة، أبرزها مثلاً باب (الحقوق) ولذلك تُسمّى كثيرٌ من الكليات المهتمة بالقانون بكليات الحقوق مثلاً.. فما هو الحق وما علاقته بالقانون؟ تتعدد إجابات فلاسفة القانون في هذا، وإجابتي التي تقنعني - بتبسيط شديد - بعد الاطلاع على كثير من الإجابات تظهر في الفقرة التالية:
كل إنسان يردد بين فترة وأخرى عبارات وأسئلة من قبيل: أريد حقوقي.. أين حقي؟ كيف أضمن حقي عند القيام بكذا أو عند الدخول في كذا؟ والقانون هو الذي يشرح ويجيب عن تلك الأسئلة والجمل، ولذلك كانت العلاقة بين الحق والقانون وثيقة بلا شك دائمًا وأبدًا، فالقانون دوره الرئيس يتمثّل في تنظيم العلاقات المختلفة بين الأفراد في المجتمع، أي أنه يحدد وينظم ويحفظ حقوقهم في كل تعاملاتهم مع بعضهم.. ومن هنا تظهر حقيقة الصلة بين القانون والحقوق.. الحق هو عكس الباطل، والحقوق بكل بساطة هي الأمور الثابتة من المصالح والأنصبة.. هي الأشياء الواضحة المُحكمة المثبتة المستحقة لفرد أو جماعة، والقانون هو الذي يتولّى تنظيمها ويضمن حمايتها.
وأختم بنقطتين:
الأولى هي أن على كلِّ مهتمٍ بالقانون المحققِ للأمن، أن يعرف أنه قانون مرتبط بـ «تقييد شيء من الحريات»، فكل القواعد العامة التي توجه سلوك الأفراد في المجتمع، والتي يُعبّر عنها بـ (قانون) أو قوانين، لا بد في كل منها أن يوجد شيء من التضييق والتقييد لحرية الفرد؛ ولكنه في الغالب تقييد إيجابي سليم، فكل صور الإساءات والضرر التي يمارسها أيُّ إنسانٍ ضد غيره من البشر، يجب إيقافها وردع صاحبها بقوة القانون، وفي هذا تقييد لحريته بلا شك.
والثانية هي أني أعتقدُ أن أفضل طريقة للوقوف على مفهوم وماهية فلسفة القانون هي إسقاط كلِّ تعريفات الفلسفة عليها، أي أن «فلسفة القانون» هي الفلسفة إذا أسقطت أو طبقت على القانون، ففيلسوف القانون في نظري هو الفيلسوف الذي يمتلك (خصائص التفكير الفلسفي) التي فصّلتُ فيها في مقالات سابقة، ولكن بشرط واحد فقط، وهو أن يهتم هذا المالك للقدرة على التفلسف بالقانون..
وبناءً على ما ذكرته سابقا أيضًا من أننا لن نبالغ لو قلنا: إن عددَ تعريفات الفلسفة مساوٍ لعدد الفلاسفة، أقول اليوم: إننا لن نبالغ أيضا لو قلنا: إن عددَ تعريفات فلسفة القانون مساوٍ أيضًا لعدد الفلاسفة المشتغلين بالقانون أو المهتمين به.
فالحقيقة أني بتأملي لبعض ما كتبه بعض كبار الفلاسفة أثناء مرورهم على القانون، كأفلاطون وأرسطو وتوما الاكويني وكانط، بل وماركس وهيجل وغيرهم.. الحقيقة أني بتأملي لكثير من كتاباتهم وكتابات غيرهم من الفلاسفة في هذا الصدد، وجدتُ وظهر لي جليًا أن جلَّ كتاباتهم ليست أكثر من (تصوراتهم الخاصة) حول القوانين العادلة وغير العادلة، وما يدخل في هذا وما يرتبط به، مهما تعددت الصياغات والأساليب والمناهج والتفريعات.
وبالتالي ففلسفة القانون ترتبط ببقية (فلسفات الفيلسوف) إن صحَّ تعبيري، وكل فلسفات أيّ فيلسوفٍ تدور في النهاية في فلك واحد غالبًا، أي أنها تتأثر بتصوراته الفلسفية المختلفة المترابطة المتداخلة المتقاربة، الناتجة عن تعريفه للفلسفة أصلاً من جهة، ثم تتأثر فلسفة القانون كغيرها من فلسفات الفيلسوف من جهة ثانية - بوصفها جزءاً أو ركناً من أجزاء أو أركان فلسفته العامة - بكثير من العوامل والظروف والتنشئة الاجتماعية والمرجعيات والمرتكزات والموروثات والتأثرات والقناعات والخلفيات والأطوار والأزمان والقيود والأجواء الثقافية والعقائدية والاقتصادية والمجتمعية الواسعة المحيطة به منذ نشأته وحتى وقت تفلسفه في القانون.
والفلاسفة فيهم من اهتم بفلسفة القانون وانشغل بها، وفيهم من ليس كذلك، ففيلسوف القانون - في نظري - باختصار وعطف على كل ما سبق: هو الإنسان القادر على التفلسف، الذي أعطى اهتمامًا للبحث في ماهية القوانين وأصولها وكيفية خلقها وغاياتها وعللها وتطبيقاتها وعلاقة بعضها ببعض... إلخ، بهدف تكوين نظرة عامة شمولية يستطيع من خلالها الإدلاء بدلوه في حل المشكلات ووضع الأسئلة ذات العلاقة بالعدالة والقانون العادل أو الأكثر قدرة على تحقيق الأمن، ومن ثم الاجتهاد في الإجابة المنطقية عنها.. ودمتم سالمين.
وائل القاسم - الرياض