الإفصاح عن إنشاء منطقة حرة في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة تعنى بالنشر والطباعة والتوزيع والبحوث والدراسات خبر مبهج ومناسبة كبرى لم تعرف مجالات صناعة الكتاب العربي مثلها منذ قرون قد تحدث نقلة نوعية غير مسبوقة في هذه السوق والصناعات المتعلقة بها.
والكتاب ابن شرعي للثقافة العربية وجد عناية فائقة تأليفاً ونسخاً وتزييناً وتذهيباً وزخرفة، وعرفت الثقافة العربية دكاكين الوراقين والمكتبات الكبرى، ووقف كثير من الخلفاء والحكّام مواقف مزدهرة لتشجيع الباحثين والمفكرين، والشواهد على ذلك كثيرة، والأثر ممتد إلى يومنا هذا رغم منغصات سوق الكتاب وضعف عمليات إنتاجه وندرة الصناعة الاحترافية له في هذا العصر تبعاً لضعف يغمر مفاصل المشهد العربي بشكل عام.
توقع كثيرون انحساراً للكتاب التقليدي في ظل الثورة الرقمية فائقة السرعة، لكن العكس يحدث الآن ففي ظل نمو الأشكال الإلكترونية تتزايد أعداد النسخ المطبوعة، وتحقق معارض الكتب مبيعات عالية؛ وهي انتصارات جديدة يحققها الكتاب على مستوى العالم، وهذا يدعو للدهشة والفرح أيضاً.
سلسلة كبيرة من العثرات تعترض مسيرة الكتاب العربي اليوم بدءاً من عمليات تشجيع المؤلفين، ودعم المشاريع الكبرى كالموسوعات والمعاجم، وانعدام، أو ضعف عمليات التحرير الأدبي والعلمي الذي تحتاجه الكتب قبل إخراجها وطباعتها، وتزايد سطوة الرقيب بكل أهوائه وتوجهاته المتخلفة وظنونه القمعية في أنماط حرمت الثقافة كثيراً من الأعمال، ثم تدني مستوى الإخراج والطباعة مع ارتفاع التكاليف، ويصل الكتاب بعد هذه العمليات مهيض الجناح إلى شركات توزيع هزيلة تقتطع نسبة كبرى من قيمة البيع، ويقتنص آخرون هذه السلسلة الفريدة ليمارسوا هوايتهم في العبث بقوانين الملكية الفكرية والإتجار بحقوق المؤلفين.
مؤسسات ثقافية وبحثية كبرى في الوطن العربي مثل مؤسسة الفكر العربي علّقت الجرس لكن الحلول لا تقوم بجهد فردي ولا نوايا حسنة فقط ما لم تدعمها الإرادات الحكومية المؤسسية الكبرى، وقد حدث هذا أخيراً بإعلان حكومة الشارقة إنشاء منطقة حرة «مدينة الشارقة للنشر» تؤمن أن الارتقاء بالعقل يتطلب اهتماماً بالكتاب فهو السبيل إلى ذلك.
النوايا الحسنة توفرت عند كثيرين ولم تنفع فالعصر يتطلب أعمالاً احترافية، والتزاماً بالمعايير، والتماساً لأصول الإنتاج، وتجاوز العثرات بشكل تنفيذي لتقي الكتاب سوق التلاعب والعبث والإجراءات البيروقراطية التي عرفت بها القطاعات الرسمية، وترفع عن كاهل العاملين في مجالاته أعباء التكاليف العالية في الوسائل الإنتاجية مثل مكائن الطباعة والمواد الخام عبر الاعفاءات الجمركية، وجذب المختصين في العمليات الفنية، وتوسيع شبكة التوزيع بإنشاء نقاط البيع، وتقنين الأسعار، ورعاية معارض الكتاب، وتدريب الناشرين على العمل الاحترافي؛ وقد تقدم مدينة الشارقة للنشر هذا البرنامج الأول بشكل مجاني للناشرين في العالم العربي.
حتماً ستنجح هذه البادرة كما نجحت نظيرتها «المدينة الإعلامية» في دبي، والمرجو استنساخها أو المشاركة فيها من قبل دول مجلس التعاون تعميماً للفائدة وتوفيراً للجهد والحد من هدر الطاقات، وهذا غير مستحيل أمام الإرادة والإيمان بالعمل الجمعي، وأتذكر هنا تجربة ثقافية وإعلامية رائدة تمثلت في مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج، ومكتب التربية العربي، فهل تتآلف الجهود لتعزز حضور هذه المدينة الحرة ذات العلاقة بالعقل وبناء الإنسان وتكوينه المعرفي؟ وهل ستفتح الدول العربية أسواقها بحرية لمنتجاتها فتنهزم الأسوار العالية التي يعانيها الكتاب العربي؟ وتضعف هيمنة الرقباء المتحجرين الذين خذلوا الكتاب والناشرين والقراء، وأسسوا أسواقاً سوداء للكتاب، إن صح التعبير؟!
محمد المنقري - جدة