ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
تقديم المترجم:
صدر مؤخراً من إعداد وترجمة وتحقيق كاتب هذه السطور كتاب «إيران والإخوان: علاقات ملتبسة» (مدارك للنشر، دبي، 184 صفحة)، وهو عبارة عن بحث للمستشرق الأيرلندي البارز والراحل بروفيسور فريدريك (فرد) هاليداي (1946- 2010). فريدريك (فرد) هاليداي هو مفكر أيرلندي متخصص في مجال العلاقات الدولية والشرق الأوسط، مع تركيز خاص على الحرب الباردة، وإيران، وشبه الجزيرة العربية. وهو صاحب ميول يسارية وترأس تحرير مجلة اليسار الجديد الشهيرة (نيو ليفت ريفيو NLR). وربما كان هذا آخر بحث منشور له قبل وفاته في أبريل 2010، وهو في أوج عطائه وفي سن صغيرة نسبياً بعد معاناة سرية وقصيرة مع مرض السرطان، ما سبب صدمة ولوعة لمحبي هذا المفكر اللامع ومنهم كاتب هذه السطور. أصدر هاليدي أكثر من 20 كتاباً مرجعياً ولحسن الحظ ستصدر له بعد وفاته بعض المخطوطات وكتب شارك في كتابتها ولم تنشر من قبل. وكانت آخر محاضرة رسمية له بتاريخ 23 فبراير 2009، بعنوان «الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد ثلاثين عاماً» وذلك في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE).
تمهيد
الإخوان المسلمون هم حركة عابرة للأوطان تعمل بمبدأ إخواني مشترك للإصلاح والإحياء الإسلامي، وضعه أصلاً مؤسس الحركة، الشيخ حسن البنا. وبالرغم من هذا المبدأ المشترك، إلا أن فروع الجماعة المحلية المتنوعة وشعبها الموزعة في مختلف الدول، تتفاعل بحسب الظروف الاجتماعية - السياسية (Sociopolitical)، المحددة الخاصة بكل منها. ونتيجة لهذه المرونة الحركية، اتبعت فروع الجماعة في مختلف الدول مجموعة من الاستراتيجيات للسعي نحو السلطة وإقامة دولة إسلامية والتي، مع مرور الوقت، ومن مكان إلى مكان، ساعدت في خلق تنوع كبير من الأجندات السياسية ووجهات النظر داخل الحركة ككل.
ولعل أحد أهم نقطة يتجلى فيها هذا التنوع الداخلي الإخواني بوضوح اليوم هي في وجهات النظر والمواقف المختلفة للإخوان تجاه ما يمكن أن يسمّى على نطاق واسع بـ «المسألة الشيعية»، أو «العلاقة مع جمهورية إيران الإسلامية». هذه المسألة أصبحت تحتل مركزاً متقدماً في الفكر والجدل السني العربي الديني والسياسي، وخصوصاً في السنوات الأخيرة بسبب تنامي قوة وهيبة جمهورية إيران الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة والذي، بدوره، أدى إلى تزايد تأثير المذهب الشيعي في جميع أنحاء الشرق الأوسط بشكل عام، كما كثَّف أيضاً الصدام المستمر بين بعض التيارات من السنّة والشيعة. وقد أصبح العالم السني منقسماً بشدة حول كيفية الرد على هذه الديناميكيات الإقليمية الجديدة الناجمة عن صعود وانبعاث إيران والمذهب الشيعي دينياً وسياسياً. وبالمثل، انقسمت حركة الإخوان داخلياً حول العلاقة مع إيران والمسألة الشيعية، حيث يساند ويناصر بعضهم التأثير الديني والسياسي الجديد للمذهب الشيعي، بينما تتحفظ عناصر أخرى من الجماعة على المذهب الشيعي وتصل أحياناً إلى درجة مناوئة لتزايد قوته.
أيديولوجية مسكونية:
المسألة الشيعية ليست قضية جوهرية للإخوان
لم تكن المسألة الشيعية دائماً قضية للإخوان لأنّ جوهر الأيديولوجية الأساسية للجماعة مسكوني (*) واستيعابي دينياً؛ فمنذ تأسيس الجماعة عام 1928، أكد قادة الإخوان الأهمية السياسية للوحدة الإسلامية، وسعوا إلى التقليل من أهمية الاختلافات الدينية بين مختلف المذاهب الفقهية الإسلامية، بما في ذلك ما بين السنّة والشيعة. واعتبر حسن البنا، أنّ كل الطوائف الإسلامية المتعددة - باستثناء البهائيين والقاديانيين - تنتمي إلى الأمة الإسلامية. ومن هذا المنطلق، أدى البنا دوراً في عام 1948، في تأسيس «جمعية التقارب بين المذاهب الإسلامية». وقد تم تصميم هذه الجمعية لتقليل الخلافات الدينية بين السنّة والشيعة، وأفتى رئيس الجمعية شيخ الأزهر محمود شلتوت، أنّ مذهب الشيعة الإثني عشرية صحيح ويجوز التعبُّد به وسمح بتدريسه في الأزهر. وعلى هذا الأساس، فإنّ البنا والجماعة التي أسسها أصلاً التزمت بنظرة أيديولوجية لم تكن «المسألة الشيعية» تعتبر مشكلة فيها.
وبالنظر إلى هذه الخلفية المسكونية، فإنّ جماعة الإخوان كانت متحمسة في البداية للثورة الإسلامية التي حدثت في إيران في عام 1979. كانت الثورة ملهمة لجماعة الإخوان كنموذج لحركة إسلامية شعبية بزغت لإسقاط نظام علماني موالٍ للغرب ونجحت في تأسيس دولة إسلامية. إضافة لذلك، اعتبر الإخوان النظام الإسلامي الإيراني كبديل مثير للإعجاب للأنظمة العربية العلمانية، لأنه بخلاف تلك الأنظمة، تمتعت إيران بشرعيتين في نظرهم: شرعية إسلامية وشرعية شعبية سياسية على حد سواء؛ وأيضاً بعكس الأنظمة العربية، كانت إيران قادرة على الدفاع عن نفسها من دون الحاجة إلى الاعتماد على الدعم الأجنبي.
كما تشعر أيضاً جماعة الإخوان بتجانس ووئام عميق مع الأيديولوجيا السياسية الخمينية التي عرَّفت هُوية الثورة الإيرانية والتي تبنّتها إيران منذ ذلك الحين؛ ففي الفكر السياسي الإسلامي التقليدي، يحتضن المجتمع الشريعة. ولذلك، من خلال إجماع أفراده يكون المجتمع هو أساس الشرعية ومصدر السلطات، وبالتالي يمكنه تمكين أحد أعضائه من خلال الشورى والبيعة، ليصبح الحاكم. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ كلاً من مفهوم الإخوان لسيادة الله (الحاكمية) ومبدأ الخميني (ولاية الفقيه) متجذران في الرأي القائل إن الشريعة، وليس المجتمع، هي المصدر الحقيقي للشرعية والسلطة. وعلى سبيل المثال، فإنّ مفهوم «الحاكمية» في أيديولوجية الإخوان، يدل على حكم الله من خلال تنفيذ الشريعة، وما يضفي الشرعية على الحاكم هو تنفيذه الشريعة، وليس إرادة الشعب المعبر عنها حين ينتخبون الحاكم. وبالمثل، فإن شرعية الفقيه الحاكم في مبدأ الخميني تنبع من تنفيذه للشريعة نيابة عن الإمام الغائب(1).
نواب صفوي:
من أراد أن يكون شيعياً حقيقياً يجب أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين
وبسبب هذه القرابة الأيديولوجية، فإنّ الاتصالات بين الإخوان والإسلامويين الشيعة، كانت راسخة. وفي الواقع، فإنّ هذين التيارين الإحيائيين كانا يتبادلان الأفكار بالفعل منذ بداية الخمسينيات إن لم يكن قبلها، من خلال الاتصالات القائمة بين جماعة الإخوان المصرية والسيد نواب صفوي(**)، زعيم منظمة «فدائيي الإسلام» التي نفذت سلسلة من الاغتيالات في إيران في بداية الخمسينيات، في محاولة منها لـ«تنقية الإسلام» كما تزعم. ونقل عن صفوي قوله ذات مرة: «من أراد أن يكون جعفرياً شيعياً حقيقياً يجب أن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين»(2).
وفي السبعينيات كان ممثلو جماعة الإخوان في اتصال وثيق مع الناشطين الإيرانيين في المنفى في أوروبا والولايات المتحدة الذين كانوا يحرضون على الإطاحة بنظام الشاه. إضافة إلى ذلك، كانت شخصيات إخوانية عليا هي المجموعة الأجنبية الثانية التي وصلت إلى طهران مباشرة بعد عودة الخميني المظفرة (سبقهم فقط زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات). وبعد الثورة، ساعد الإخوان الدولة الإيرانية على تخطي العقوبات الأمريكية التي فرضت عليها بعد الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران من خلال توفير منتجات أساسية كانت طهران في أمس الحاجة إليها(3).
ولكن سرعان ما خمد حماس جماعة الإخوان المسلمين الأولي ودعمها للثورة الإيرانية عندما لم تتحول الثورة إلى ما كان يتوقعه المعجبون بها من الإسلامويين السنّة. وبحلول منتصف الثمانينيات، توترت علاقات الإخوان مع إيران بشكل ملحوظ بعدما أصبح واضحاً للعيان أن طبيعة الثورة ليست ذات توجه أممي مسكوني (وحدوي) إسلامي شامل ولكنها ذات نزعة قومية فارسية محددة وبروح ثورية شيعية خالصة. وانتشرت هذه التصورات على نطاق واسع في المجتمعات العربية السنية، خصوصاً عندما حاولت إيران تصدير ثورتها لدول الخليج العربية، وكذلك عندما شكلت إيران تحالفاً مع النظام السوري الذي كان يخوض مواجهة عنيفة مع فرع الإخوان السوري. وأدت الحرب بين العراق وإيران إلى زيادة عداء الإسلامويين السنّة لإيران الثورية. كان الإخوان في البداية ينتقدون العراق لشن الحرب ضد إيران، ولكن بعد ذلك تحولوا ضد طهران عندما وسعت إيران الحرب على أمل إسقاط النظام العراقي واحتلال الأراضي العراقية بالكامل. وبالنسبة إلى الكثيرين في جماعة الإخوان، بدت إيران على نحو متزايد كقوة قومية وطائفية، وبالكاد تناصر وتهتم بالقضايا الإسلامية بالطريقة التي كان يأمل ويتوقع منها كدولة وصفت نفسها بـ «الجمهورية الإسلامية».
ولذلك فإنّ أحداث الثمانينيات أفرزت حدة جديدة في علاقات الإخوان مع إيران. ونقل عن آية الله خلخالي، رئيس المحاكم الثورية الإيرانية، بأنه أشار إلى جماعة الإخوان آنذاك باسم «إخوان الشيطان» (4). وفي عام 1987، نشر الشيخ سعيد حوى المنظر والقيادي الإخواني السوري البارز، كتابه الشهير «الخمينية: شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف». وفي الآونة الأخيرة، زاد توتر العلاقات بين الإخوان وإيران منذ حرب الخليج الثانية، عندما استاء الإخوان من عدم مساعدة إيران للعراق ضد الغرب، ثم دعمها الانتفاضة الشيعية العراقية ضد صدام(5).
هوامش المترجم:
(*) مسكوني (Ecumenical): مصطلح كنسي يعني السعي إلى الوحدة بين أتباع الدين الواحد. (العيسى).
(**) نواب صفوي: هو السيد مجتبى ميرلوحي (1924- 1956)، وهو رجل دين شيعي متطرف ولد في طهران عام 1924، واشتهر بعدما أسس وتزعّم حركة «فدائيي الإسلام» عام 1945 (بالفارسية : فدائيان إسلام) المناوئة لحكم الشاه والتي كانت تدعو إلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية، ونفذت عمليات اغتيال ضد من اعتبرتهم علمانيين يعارضون تطبيق الشريعة. وكان نواب صفوي قد زار القاهرة واجتمع مع سيد قطب، وقوبل بحماس شديد وترحيب حار من قبل الإخوان المسلمين الذين رافقوه لزيارة مراقد أهل البيت في مصر. وتم اغتيال الكاتب والمؤرخ الإيراني الليبرالي أحمد كسروي على يد اثنين من أتباع صفوي؛ حيث كان صفوي قد اعتبر كتابات كسروي أنها تدعو إلى الضلال. واعتقل صفوي إثر ذلك وأودع السجن، ولكن أفرج عنه بضغط من رجال الدين الذين هيجوا الجماهير ضد حبسه. وبعد خروجه من السجن حرّض الجماهير ضد حكومة الشاه لكونها علمانية، ثم انتقل نواب صفوي مع حركة فدائيي الإسلام إلى العمل السري بعدما أصبحوا ملاحقين من الأمن. وقامت مجموعات من هذه الحركة بتصفيات واغتيالات لسياسيين وشخصيات إيرانية علمانية، حيث اغتالت الحركة في عام 1949، وزير البلاط عبد الحسين حازر، ثم اغتالت رئيس الوزراء حاجي علي رزمآرا في عام 1951. ثم حاول صفوي أن ينفذ عملية اغتيال لرئيس الوزراء السابق حسين علاء عام 1955، ولكن المحاولة فشلت وقبض على نواب صفوي وثلاثة آخرين وحكم عليهم بالإعدام، ونفذ الحكم عام 1956. ومن اللافت أن نواب صفوي أضاع تاريخه النضالي ضد الشاه بسهولة عندما ناصر وأيّد – مثل العديد من الملالي - الانقلاب الذي نفذته المخابرات الأمريكية - البريطانية ضد رئيس الوزراء الإيراني الوطني الراحل د. محمد مصدق الذي أمم صناعة النفط الإيرانية بدعوى أن الدكتور مصدق علماني!!!.
- Hamad.aleisa@gmail.com