د. جمعان عبد الكريم - الباحة
يفتخر المجتمع الغربي الذي سُمّي «العالم الحر» تفريقا بينه وبين العوالم الأخرى بأن أهم مكتسباته التي حققها في حضارته هي حرية التعبير، ويرى بعض الباحثين الغربيين أن الدين الإسلامي لا يحتوي مثل هذه الحرية، وقد ظهرت قضية حرية التعبير بارزة بإلحاح في مواجهة الإسلام مفاهيميا في قضية الكاتب سلمان رشدي في كتابه آيات شيطانية عام 1989م، حيث تمثل الرد في إنكار معظم المسلمين لنشر هذه الرواية المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلَّم - وأنها تمثل إهانة لدينهم ومعتقداتهم.. لكن الخطير أن الخميني أصدر فتوى بإهدار دم الكاتب سلمان رشدي في ظل نظام رسمي يقوم على ولاية الفقيه ! هنا بدأت حملات تشويه الإسلام ووصفه بالبربرية ووصفه بالإرهاب ووصفه بالاستبداد وبأنه يقتل المعارضين له..
وقد اشتد أوار الصحوات الدينية منذ الثمانينات واستغلت بعض الأديان في صراعات سياسية إبان الحرب الباردة، وتم دعم أفكار التطرف في تلك الأديان وتوجيهها إلى تصوير الصراع أنه صراع بين حق وباطل مع استعمال أشكال محددة من المفاهيم في النظر إلى الآخر.. واستعمال إستراتيجية عاطفية تقوم على اجتزاء قطعة من الصورة وحجب بقية الصورة.. وفعلا نجحت لأول وهلة الجماعات الدينية المتطرفة في إطار الصورة التي رسمت لها بعناية وخفاء في قلب موازين الحرب الباردة، ولكن السحر انقلب على الساحر وخرج الإعصار المصنوع عن السيطرة وأصبح ثقباً أسود يلتهم كل شيء أمامه منطلقا من كائن مسخ ومفاهيم مبتورة أعدت في مختبرات خاصة.. ومازال ذلك الثقب الأسود منفلتا بل صارت الثقوب السوداء تواجه بعضها بعضا ولا زال ثمة من يحركها بطريقة أو بأخرى، ولا خاسر في هذه اللعبة الكبيرة إلا الإِنسان والحياة والقيم النبيلة التي تحث عليها جميع الأديان دون استثناء...
ولاشك أن حرية التعبير من الأمور التي تعد جريمة كبرى عند التنظيمات الإرهابية ليس ذلك فحسب بل هي جريمة كبرى في الغالب حتى الآن عند غير العالم الغربي « العالم الحر « .
وقد حاول بعض الباحثين الرجوع للأصول الإسلامية المؤسسة من قرآن وسنة لإثبات دكتاتورية الدين الإسلامي، وأن الحرية التي وردت في تلك النصوص لا تتعدى المقابلة بين الحرية والرق وأن الإسلام لا يكفل الحريات الأساسية ومنها حرية التعبير. وقام في الوقت نفسه التطرف الإرهابي باغتيال هذه الحرية كمفهوم وأعطى نفسه حق التهديد بالقتل، بل نفذ عمليات اغتيال لمن أهان الدين الإسلامي أو رموزه الخالدة..
وبهذا وقعت حرية التعبير في العالم الإسلامي في وضع مزر بين وضع قانوني ودستوري متأخر في معظمها وبين جماعات إرهابية مصنوعة بثت الرعب وشوهت الدين الإسلامي ذاته.
والحقيقة أن حرية التعبير هي من أقدس الحريات وهي التي مكنت الغرب من الرقي الحضاري والأخلاقي والقيمي الذي يتمتع به الآن، فالتعديل الدستوري الأول في الدستور الأمريكي ينص على أن الكونجرس الأمريكي لا يستطيع أن يسن أي قانون يحد من حرية التعبير والصحافة، ولكن في الوقت نفسه لا تستطيع الصحافة أن تحمي نفسها من إقامة دعاوى قضائية ضدها في النواحي التالية : نشر معلومات تمس الأمن القومي، نشر آراء ومعتقدات كاذبة، نشر معلومات تؤذي السمعة الشخصية، القذف والتشهير، الآراء غير الأخلاقية. وقد أقيمت الكثير من القضايا حول تهمة القذف وكان التعويض في بعضها بملايين الدولارات.. ويكون القذف من خلال القيام بتجريح شخص من دون مستند قانوني ومن دون أدلة سواء أكان حيا أم ميتا..
ومع ذلك فحق التعبير يظل من أعظم الحقوق التي وصل إليها الغرب إلى الدرجة التي جعلت الرئيس الأمريكي جيفرسون يقول: لو خيرت بين حكومة من غير صحافة أو صحافة من غير حكومة لاخترت صحافة من غير حكومة.
وعلى أية حال فإنَّ حرية التعبير أصبحت مفهوما مؤسسيا وقانونيا وحضاريا في الغرب، وهي تنطلق من منطلقات ليبرالية واضحة تستند إلى تقاليد راسخة تمتد إلى عصر الأنوار، وليست انتقائية في تطبيقها أو تعتمد تشويه الإسلام أو غيره من الديانات، وإنما تستمد أحكامها من سياقها الحضاري ومن إشكالاتها الخاصة بها في المجتمع الغربي ومن أوضاعها القانونية والمؤسسية.
ولذا....
فإنَّ مقارنة هذا المفهوم بما هو موجود في العالم الإسلامي يحتاج إلى الحذر ويحتاج إلى ملاحظة اختلاف السياق في تناول المفهوم وإلى اختلاف السياق في مسألة الزمن المرجعي والتحققي للمفهومين، وإلى استقرار المفاهيم الحضارية والقانونية في الغرب وعدم استقرارها في العالم الإسلامي، ولو نظرنا على سبيل المثال على آخر خلافة ممثلة للإسلام وهي الدولة العثمانية لوجدنا في قانون مطبوعاتها أشد القيود على حرية التعبير ليس فيما يتعلق بنقد الدين أو المقدسات فحسب بل فيما يتعلق بنقد الدولة العثمانية نفسه... لكننا لا نستطيع أن نبني قوانين حرية التعبير على مرجعيات الخلافة العثمانية وقانون مطبوعاتها المضحك، ولا أن نعتبرها المصدر الأصلي لهذه الحريات في صياغة قوانين لحرية التعبير في بلاد إسلامية أيا كانت تلك البلاد.
ما يستحسن في البداية هو البحث الأولى بتجرد في التشكلات الخطابية لحرية التعبير في النصوص المؤسسة خصوصاً القرآن الكريم بدلا من تتبع كلمة حرية وكلمة تعبير وما يرادفها وما يقرب من المفاهيم الغربية والانطلاق من المفاهيم ذاتها للوصول إلى اصطلاح إسلامي لما يسمى حرية التعبير الآن، وأعتقد أن هذا الأمر مهم جدا للوصول إلى وضع قانوني وحضاري لحرية التعبير في كل شيء حتى فيما يتعلق بالمقدسات الدينية.
ونقصد بالتشكلات الخطابية النصوص التي تحمل خطابا يمكن مناقشة حرية التعبير في مفهومنا الحاضر بما تقره تلك الخطابات وبما تنفيه وبما تؤيده وبما تعارضه، حتى وإن كان مصطلح حرية التعبير نفسه غير حاضر في تلك الخطابات.
إن مناقشة الأمور الدينية وأمور المقدسات في الخطاب القرآني يدور في الجمل الخطابية الآتية:
1 - إقرار الحرية الدينية.
2 - جواز الحوار في كل المسائل الدينية دون استثناء وعدم جواز معاقبة الناس على اعتقادتهم.
3 - الحث على عدم انتهاك مقدسات الآخرين وعدم المساس بها أياً كانت.
4 - السماح للآخرين من غير المسلمين بحرية التعبير وحرية انتقاد الإسلام مهما كان الانتقاد حتى لو وصل الأمر إلى الخروج عن العقل والمنطق وحتى لو وصل إلى السب والشتم.
5 - أن الرد الوحيد على الذين ينتقدون الإسلام نقدا غير نازه أو غير عادل من وجهة النظر الإسلامية هو الإهمال وعدم الاهتمام في مسألة الانتقاد، ولا يعني ذلك المقاطعة التامة بل يعني الاحتجاج بالصمت أو بالمقاطعة المؤقتة لذلك النقد فقط.
وعلى هذه الجمل الخطابية المبنية على نصوص قرآنية تتمثل في بعض الحوارات وبعض التوجيهات المباشرة التي لا مجال لعرضها هنا، وأهمها آية 68 في الأنعام وآية 140 في النساء وكل الحوارات بين الله والشيطان وبين الأنبياء والمعارضين لهم... نرى أن حرية التعبير متحققة في الدين الإسلامي في أجلى صورها، وتبقى الحقوق الخاصة مرهونة بالعقوبة على القذف وهذه تخضع للقضاء ولمستندات الإثبات.
وعلى ذلك فإنَّ التعامل الإرهابي مع حرية التعبير سواء أقامت به مؤسسات أم دول أم جماعات إرهابية متطرفة مرفوض تماماً في الإسلام، أما التعامل الوحيد المقر فهو ((الإعراض)) الإهمال المؤقت، أو المقاطعة المؤقتة واختيار عدم النشر الذاتي في المسألة محل الاختلاف مع عدم منع الطرف الثاني من النشر.
وهذا هو الجانب المضيء جدا في التعامل المبني على جمل خطابية قرآنية من المفروض أن يترجم في دستور أي دولة تدعي أن دينها الإسلام، أما إذا أرادت جهة ما الرد على تعديات على مقدسات إسلامية فعليها أن ترد وفق الوضع القانوني في زمنها وبالأدوات القانونية للجهة التي اعتدت على المقدسات الإسلامية فقط وليس بالتهديد ولا بالقتل الذي لم ينشأ إلا في أوضاع وسياقات إيديولوجية مستغلة منذ الحرب الباردة وحتى الآن، وعلى الجهات التي استغلت تلك الجماعات تحمل تبعات هذا الوضع الغريب على الإِنسانية وعلى الحضارة وعلى الإسلام نفسه أقصد الإسلام النقي وليس الإسلام المستغل إيديولوجي.
ويجب في النهاية الاعتراف بصدق وبموضوعية أن حرية التعبير لم تصل إلى أعلى رقيها من خلال التحقق الحضاري والفعلي والقانوني إلا في الغرب، وأنها كانت سببا رئيسا في الرقي والسلام المجتمعي الذي ينعم به العالم الحر تحت مظلة قوانين حقيقية وليست شعارات مستغلة، وأذكر في هذا الخصوص أنني قرأت أن قاضيا أمريكيا حكم ببراءة متهمين أمريكيين في أثناء مظاهرة ضد غزو فيتنام قاموا بحرق العلم الأمريكي معتبرا ذلك ليس إهانة لأمريكا بل تعبيراً عن رأيهم في قضية محددة وهي غزو فيتنام، فتخيلوا هذا الوضع في عالم آخر غير العالم الغربي أشك في أنكم تستطيعون تخيله... ولقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب الذين لا يحجرون على الناس حرية القول ولا يسجنون أو يقتلون الناس لمجرد تعبير أو عمل فني أو كتابة أو كلمة قيلت.