صالح بن سالم - المدينة المنورة
يتعامل الغزالي مع التأويل بتخوف وريبة، ويعتبره ملاذاً عندما تتعارض النصوص في ظاهرها وإلا فإن الأصل هو ظاهر النص فيرى أن «جواز ذلك (ويقصد التأويل) موقوف على قيام البرهان على استحالة الظاهر» (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص47)، بل إنه يحاول كثيرًا ألا يخوض في التأويل خشية أن يقع في التخمين، لأن التخمين في رأيه قولٌ على الله بغير علم وهو استظهار للمعنى الذي لم يرده الله تعالى من النص وبذا فهو عرضة للمحاسبة يوم القيامة -بحسب رأيه-.
ولأن المؤوِل عرضةً لأحد أمرين عندما يتماس مع النص بالتأويل وهما : إما أن يفشل في الوصول إلى المعنى المراد، والمعنى هنا هو الذي أراده الله تعالى من النص؛ وعندها فقد وقع في المحذور، وإما أن يقع في حيرة من التناقض الظاهر بين النصوص وعندها سيعمد إلى التوقف وإعلان الفشل في استظهار معنى النص وهذا أيضًا يوقعه في المحذور؛ فإن الغزالي ينطلق في نظرته للتأويل من خلال تقسيمات خمسة لأحوال الناس مع التأويل؛ فهو هنا ينظر للتأويل من خلال المؤوِل، فلا يخلوا المؤوِل من حالات خمس كلها منبوذة ما عدا واحدة وهي:
* الذين «جردوا النظر إلى المنقول» وتوقفوا عند النص بإهمال شديد للعقل وأدواته في التعاطي مع النصوص؛ ويتعامل هذا الصنف مع النصوص التي يظهر فيها التعارض بإحالة القدرة على الله وأن الله قادر على أن يفعل كل شيء حتى وإن عارض هذا المنطق والعقل.
* الذين «جردوا النظر إلى المعقول» وصار النص بالنسبة لهم ثانويا تابعا لعقولهم، ويتعاملون مع النصوص التي يظهر فيها التعارض بإحالة كلام الأنبياء إلى أنه مبالغة منهم يقتضيها الحال ليصدقهم الناس، وقد كفّرهم الغزالي لأنهم كذّبوا الأنبياء.
جمعوا بين المعقول والمنقول لكنهم جعلوا المعقول هو الأصل، لذا فإنهم يتعاملون مع النص الذي يظهر فيه التعارض بالرد والتضعيف وعدم القبول والتكذيب حتى إنهم اقتصروا على المتواتر من النصوص كالقرآن، وهؤلاء في نظر الغزالي جانبوا الصواب لأنهم وقعوا في رد كثير من السنة الصحيحة.
وهؤلاء جمعوا بين المعقول والمنقول لكنهم جعلوا المنقول هو الأصل، وتعاملوا مع النصوص بإمكانية كل ما لم يُعلم استحالته أو إمكانه، وتضارب العقل عندهم مع النقل لأن الكثير من النصوص التي ظاهرها التعارض تحتاج إلى مقدمات كثيرة حتى يتم الجمع بينها عقلًا.
* وهؤلاء هم المتوسطون الذين جمعوا بين المعقول والمنقول لأنهم عرفوا أن العقل أصلٌ في إثبات الشرع فلا تعارض بينهما، وحتى يصل المجتهد إلى هذه الفرقة فلابد من كونه متبحرًا بالعلوم وممارسًا للتوفيق بين المعقول والمنقول.
ويسوق الغزالي (وصايا) ثلاث عند الخوض في التأويل أو عند إرادة الخوض في التأويل وهي:
- الأولى تنطلق من تخوفه من التأويل واعتباره التأويل مزلقًا يؤدي إلى المعصية لذا فإنه يوصي باجتناب الخوض في كل المعاني والنصوص التي ظاهرها التعارض، ويحسم الأمر بأنه ليس للإنسان أن يعرف كل ما أراده الله ورسوله.
- والثانية هي انتصار للعقل/البرهان بعدم تكذيبه ورفضه لأن رفضه رفضٌ للشرع فهو الهادي للشريعة وبه عرف الإنسان الشرع.
- والثالثة يعود فيها إلى تخوفه من التأويل حينما يرى التوقف عند تشابه احتمالات معاني التأويل لئلا يقع الإنسان في المحذور الذي هو إرادة معنى لم يرده الله تعالى، وعلى المؤوِل هنا أن يقول : « أعلم أن ظاهره (النص) غير مراد، إذ فيه تكذيب للعقل، وأما عين المراد فلا أدري ولا حاجة لي أن أدري، إذ لا يتعلق به عمل ولا سبيل فيه إلى حقيقة الكشف واليقين « (قانون التأويل ص24).
وبما أنّ الغزالي يرتضي التأويل كمنهج ثانوي مع النص فإنه يرفض تكفير المؤوِل لأنه اجتهد في رأيه، ويقصر التكفير على من كذّب النص لا مَنْ أوّله؛ وكذلك من أوّل النص عن ظاهره دون برهان قاطع، ويقبل وسم المؤوِل المخالف بالضلال باعتباره ضل عن رأيه الذي يرتضيه؛ ويقبل أيضا وسمه بالمبتدع باعتباره ابتدع رأيًا غير موجودٍ عند السلف، وكذلك فإنه يفرق في التأويل بين من أوّل في أصول العقائد وبين من أوّل في فروعها، فيدعو إلى التساهل مع من لم يتأوّل الأصول.( فيصل التفرقة ص48-53).
التأويلية بين الغزالي وابن رشد:
الغزالي وابن رشد كلاهما يعتبر التأويل ملاذ ليس أصلًا لأن الأصل عندهم هو ظاهر النص؛ إلا أن الغزالي يتعامل مع التأويل بتخوفٍ وحذر، وابن رشد يتعامل معه كحل ومنقذ للتوفيق بين الشريعة والحكمة، لذا فإن منهج ابن رشد في التأويل أكثر صرامة ويقصره على أهل البرهان، ويجعله بعد مراحل عديدة تسبق التأويل؛ بينما يعممه الغزالي ويحيل إلى الورع في التعامل مع التأويل وإلى الخوف من عدم إصابة حقيقة المعنى. فيعتبران التأويل منهجا للوصول إلى الحقيقية المخفية في ثنايا النص لكن ابن رشد يتعامل معه على أنه سلبي من حيث كونه سببًا في تفرقة المسلمين إلى مذاهب عديدة؛ فلما وُجد التأويل اُستحدثت المذاهب؛ والغزالي يتعامل مع التأويل على أنه أصلٌ من أصول القرآن للبحث عن المعنى، فكأن ابن رشد يلجأ إليه من منطلق عقلاني بينما الغزالي يلجأ إليه من منطلق شرعي.
ويعتمد الغزالي في تأويليته على التوفيق بين المعقول والمنقول بينما تتمحور تأويلية ابن رشد حول الجمهور وأهل البرهان، ففي الحين الذي لم يذكر فيه الغزاليُّ الجمهورَ كمقابل للبرهان/العقل؛ وحينما قسم الناس في نظرتهم للعقل قسمهم بناءً على السويّة في الفهم؛ بيْدَ أنه يستثني (العوام) من إظهار التأويل لهم إذا كان هذا التأويل سيشوش عليهم، فاعتبار العوام/الجمهور عند الغزالي طارئ غير أصلي يقتصر على منْ يتضرر فهمه بسبب التأويل، فإن ابن رشد يبدئ ويعيد في هذه القضية وقسم الناس بناءً على التراتبية في الفهم، حتى إنه يعتبر إظهار التأويل للجمهور كفرًا لأنه يؤدي بهم إلى الكفر، وبذا فإنه قد يعتبر الغزالي كافرًا لأنه مثّل به في خطئه لإظهار التأويل للجمهور، وينقد طرح الغزالي بأنه خلطًا بين ماهو خطابي يخص الجمهور مع ماهو جدلي وبرهاني يخص أهل البرهان؛ وذلك بناءً على تقسيمه للناس لثلاثة أصناف: الخطابيون، الجدليون، البرهانيون.
ويتعامل الغزالي مع المعنى في التأويل باعتباره غامضًا قد لا يهتدي إليه المؤوِل، فركز على عدم تكذيب العقل الموصل إلى المعنى/الشرع؛ وعلى التخويف من التعامل بالتأويل اتقاءً لفشل الوصول إلى مراد الله/المعنى؛ ويرى التوقف حال احتمالات المعنى حتى لا يعلن معنىً ليس هو مراد الله تعالى؛ فالمعنى عنده بين الجلاء والخفاء يحاول المؤوِل الوصول إليه مستحضرًا الخوف من عدم إدراك المعنى المراد؛ لكن ابن رشد يؤمن بأن أهل البرهان يعلمون مراد الله تعالى من النص ويعتبر العلماء هم أهل البرهان الذين يعلمون تأويل القرآن مع الله تعالى، وهذا ما يجعل جرأة ابن رشد في التأويل تفوق جرأة الغزالي.