محمد المنقري - جدة
قبل أسابيع كرمت اثنينية الخوجة بجدة الأديب والإعلامي الكبير عبدالكريم الخطيب فاستعاد كثيرون الدور الثقافي الذي كانت الإذاعة تؤديه على يد مجموعة من الأدباء والمثقفين في زمن لم يعرف الوسائل الإعلامية التجارية الراهنة ولا عنفوان منافستها للهبوط إلى الشارع العام بمواد ضحلة وخطاب هزيل.
تألقت الإذاعة حيناً من الدهر، وتعلّق بها الناس سواء الإذاعات المحلية أو الدولية التي منحت حياتهم طعماً خاصاً والذكريات صفحات لا تنسى فكانت إذاعة الرياض وجدة روافد مهمة أثرت حياة الناس بكل أطيافهم، وكان الأستاذ الخطيب يقدِّم برنامجه الشهير الأرض الطيبة.
عدد كبير من الأدباء والمثقفين تأسست الإذاعة على أيديهم، وعملوا فيها، ومن أجلها أعدوا البرامج والحوارات واللقاءات الأسبوعية، وسجّل مؤلفون بعض التفاصيل عن ذلك كما فعل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي في كتابه «إعلام وأعلام»، والأستاذ عدنان صعيدي في كتابه «على الموجة القصيرة»، والأستاذ بدر كريم في كتابه «أتذكر» وأنا أكتب الآن وبين يدي مغلّف طبع خصيصاً ليضم مجموعة أشرطة صوتية للبرنامج الشهير «من القائل» الذي كان يعده ويقدمه كل يوم الجمعة الأستاذ عبدالله بن خميس قبل ثلاثة عقود، ولعله أول كتاب مسموع في البلاد، واستمتع بالحلقات القديمة التي تعيد الإذاعة بثها، وهي عينات مختارة من برامج حوارية وندوات فكرية وجلسات غنائية تكشف المستوى المتواضع الذي وصلت إليه الإذاعات المحلية اليوم.
ربما كانت إذاعات «FM» القشة التي قصمت ظهر الإذاعات المحلية، حيث توجه إليها عدد كبير من المستمعين ربما لشعبية البرامج التي تقدمها واستعراض مذيعيها وتفشي المسابقات وسهولة سماعها خلافاً لنطاق البث الذي لم تستفد منه الإذاعات المحلية إلا قريباً، ثم انطفأ وهج إذاعات الإف أم وعاد الناس إلى إذاعاتهم بكثير من الشوق.
كانت الإذاعة ميداناً لرسائل القراء تشجعهم على الكتابة الإبداعية والدرامية وتتيح لهم المسابقات، وترعى مواهبهم عبر مسرح الإذاعة و»استديو رقم واحد» الشهير للإذاعي الشهير محمد الرشيد، وهو مذيع قدير لا أعرف أين هو الآن وهل تم تكريمه أم تناسته الإذاعة كما تناست كثيرين من أعلامها؟!
بقدر من الحنين وكثير من الاعتبارات المهنية يمكن القول اليوم إن إذاعاتنا المحلية تراجعت كثيراً وأصابها داء إذاعات «FM» فسارعت إلى محاكاتها ظناً منها أنها الطريق الأسرع لخطف الجمهور بلغة سطحية في كثير من برامج البث المباشر خاصة ما يحدث في إذاعة جدة صباح كل يوم حيث تسود «الوناسة المصطنعة» والأحاديث الجانبية بين المذيعين بخفة في غير موضعها ودراما تسقط كثيراً في حضيض الاضحاك الممجوج متناسين أنهم يمثلون إذاعة يسمعها الآلاف ولها أدبياتها وتقاليدها تختلف عما يجري في المجالس الخاصة والمقاهي الشعبية.
تقع الإذاعة اليوم تحت مظلة هيئة مستقلة يتوجب عليها إعلان أهدافها وسياساتها، وتعمّق صلتها بهوية البلاد، وتتآزر مع الجهود التي تقودها بعض الجهات في المسار الثقافي والحضاري، وتتيح الفرص، وتدعو المثقفين والأدباء من أجل إنعاشها بإعداد البرامج وتقديمها مع مراعاة التنوع الثقافي للملكة، ودعم ثقافة الحوار والاختلاف، وتعزيز برامج حقوق الإنسان، وتوثيق الصلة بالكتاب والأوعية المعرفية، والعمل بدأب على رعاية الموهوبين في كافة الفنون عبر فعل حقيقي يختلف عن الدعاية التي صاحبت توقيع عقد شراكة قبل ثلاث سنوات بين نادي الثقافي بجدة وإذاعتها لم تر النور، ولم تتجاوز حدود الصور الفوتوغرافية، بكل أسف.