- الرياض
زهير بن أبي سلمى، شاعر السلم والسلام، ومبدع الحكمة وخبير التجربة، يعد نصه الشهير من أهم نصوص التراث العربي، فهو أحد المعلقات التي اتفق الناس على بلوغها الغاية في البلاغة والبيان، والمنتهى في الجمال والروعة، حيث اللفظ الدقيق، والمعنى العميق، والأسلوب المقنع، والدلالات الصادقة الأمينة، وصفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه أشعر الشعراء، وقال عنه إنه (كان لا يعاظل في الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه).
هذه مساحة لاستحضار إبداع هذا الشاعر الفطحل، وسطور لاستدعاء شيء من روائع حكمته وتجاربه، من خلال عدد من المشاهد التي تفيض حكمة وخبرة وتجربة، صاغها ابن أبي سلمى بلغة أخاذة، وأسلوب فاخر، لعل هذه الحروف تكشف عن شيء من ذلك.
يقول زهير:
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة
وذبيان هل أقسمتمُ كلَّ مُقسَمِ
فلا تكتُمُنَّ اللهَ ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يُكتمِ اللهُ يعلم
يؤخَّر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فيُنقم
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتُمُ
وما هو عنها بالحديث المرجَّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً
وتضر إذا ضرَّيتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرَّحى بثفالها
وتلقح كِشافاً ثم تُنتِج فتُتئِمِ
هذا هو المشهد الأول من نص زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي الشهير الذي عُرف في تاريخ الأدب العربي بهذه القصيدة الرائعة التي سطرها التاريخ بحروف من ذهب، وجعلها ضمن أشهر المعلقات في الأدب العربي، لما تفيض به من جمال الأساليب، وروعة المعاني، وبراعة اختيار الألفاظ، إلى جانب استثنائية التصوير وجزالة اللغة، وصدق العاطفة، وعمق التجربة.
وقبل أن أحاول التحليق في فضاءات هذا النص الرائع لا بد أن أشير إلى المناسبة التي قيل فيها حتى يمكن الكشف عن كثير من الدلالات التي ستعين في فهم الأبيات، وإدراكِ جمال الصور التي حفلت بها، فقد حصلت حربٌ ضروسٌ بين قبيلتي عبس وذبيان عُرفت في التاريخ باسم حرب داحسٍ والغبراء، واستمرَّت أربعين عاماً كثر فيها القتلى والجرحى، وصعب دفع الفدية، إلى أن تطوَّع رجلان كريمان من ذبيان، فدفعا جميع الديات من أموالهما وحقنا الدماء، فجاءت معلقة زهير مادحةً لهذين الشهمين، ومشيدةً بموقفهما النبيل في الإصلاح، باثاً في ثناياها فصولاً من روائع حكمته التي اُشتهر بها.
يفتتح زهير بن أبي سلمى هذا المشهد بتذكيرٍ للأحلاف بالقسم المغلظ الذي أقسموه فيما بينهم، وهو هنا يستخدم الاستفهام بمعنى التقرير تنبيهاً على أنه لا ينبغي لهم أن ينقضوا هذا العهد، وأن يحافظوا عليه، كما أنَّ فيه تعريضاً بسوء عاقبة هذا النقض فيما لو حصل، سواء ما سيحدث على إثره في الدنيا من حروبٍ وقتالٍ وإراقة دماء، أو في الآخرة من العقاب الأليم والعذاب المقيم؛ ولذلك فشاعرنا المتميز يوجه الخطاب في البيت الثاني مباشرة إلى هؤلاء الأحلاف بعد أن كان يتحدَّث عنهم بأسلوب الغيبة، في التفاتٍ رائعٍ الغرض منه زيادة التأكيد والتقرير؛ لذلك فهو ينهى الأحلاف هنا عن كتمان الشر وإضماره، وينبههم أنَّ هذه الطريقة في التعامل غير مجدية؛ لأنه وإن خفيت على الناس فإنها لا يمكن أن تخفى على الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السرَّ وأخفى.
ورغبةً من زهير في التحذير من مغبَّة نقض هذا القسم الذي سيؤدي الإخلال به إلى الحروب والويلات يكشف في البيت الثالث عن العاقبة الأخروية المترتبة على ذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سيعاقب على هذه الخيانة وذلك النقض أشد العقاب، إما عاجلاً أو آجلا، فالعقاب إما أن يؤخَّر ويحفظ في كتاب فيُدَّخر ليوم القيامة حين تُعرض الأعمال وتُفضح الأفعال، وإما أن يُعجَّل في الدنيا، وفي هذين البيتين تبدو بوضوح نزعة التدين عند زهير بن أبي سلمى وحسه الإيماني على الرغم من كونه شاعراً جاهلياً، إلا أنَّ الفطرة الإيمانية العالية أبت إلا أن يكون لها حضورٌ قويٌ في هذا الموقف، إضافةً إلى ما في ذلك من اختيار رائع لأقصى أساليب التخويف والتهديد التي تصدر عن قلب هادئٍ وشاعرٍ عاشقٍ للسلام مبغضٍ للحروب والدمار؛ لذلك هو يختار من الأساليب والمعاني كل ما من شأنه أن يؤكد هذه الرؤية، ويحقق تلك الأمنية.
وينتقل ابن أبي سلمى بعد ذلك إلى أسلوبٍ آخر من أساليب التنفير من الإخلال بالقسم والإخلاف بالوعد، وذلك عن طريق وصف ما سيترتب على ذلك من حروب ودمار وويلات، وإزهاقٍ للأرواح وإراقة للدماء، كلُّ ذلك يكشف عنه زهير من خلال الوقوف عند الحرب، وتوضيح ما يترتب عليها من مفاسد، وتصويرها بصورة منفرة قبيحة رغبة في التحذير منها والرغبة عنها.
لذلك فهو يؤكد أنَّ هذه الحرب التي ستقوم إن حصل منكم نقضٌ وإخلافٌ وخيانةٌ غير خافيةٍ عليكم، وليست غريبةً عنكم، فقد علمتموها وذقتم ويلاتها ومصائبها، وأنا حين أتحدَّثُ عنها وأصورها لكم وأخبركم بنتائجها وآثارها لا آتي لكم بجديد، ولا أخبركم بما تتفاجؤون منه، فأنتم تعلمون أنَّ حديثي عنها ليس ظناً أو توقعاً أو تخرصاً، بل حديثٌ يقينيٌّ لا شكَّ به ولا مرية فيه، وزهير هنا يستخدم أسلوب القصر بالنفي والاستثناء حين يتحدَّث عن هذه الحرب، فهذه الحرب ليست إلا ما تعرفونه، وفي هذا الأسلوب إحالة الأمر إلى تجربتهم الذاتية ليكون أدعى للتصديق وأوقع في التأثير، كما يستخدم زهير هنا الاستعارة المكنية لتصوير هذه الحرب والتنفير منها، حيث يشبه آثارها ونتائجها ومصائبها وويلاتها بالأشياء التي تُذاق، ويقرر أن هؤلاء الأحلاف قد خاضوا تجربة هذا الذوق؛ لذا فهم يعرفون الطعم جيدا، وكل هذا يدل دلالة واضحة على حرص شاعرنا المسالم على عدم الإنجرار إلى الحروب مهما كانت الأسباب، وتذكير هؤلاء الأحلاف بالمفاسد السابقة التي حصلت في السنوات الماضية بسبب تلك الحروب السابقة، وأنَّ ما يمكن أن يحصل قريباً هو أمر تعرفونه جيداً وليس بغريب عليكم.
ثم يعمد زهير إلى الدخول في تفاصيل أوسع وأكثر دقة لهذه الحرب المشؤومة ليكشف عن شدة قبحها وسوء مفاسدها، فمتى بعثتم هذه الحرب فإنكم تبعثونها ذميمة كريهة، ذميمة في شكلها وذميمة في عاقبتها ونتائجها، ومتى أشعلتموها باعتيادكم لها واجترائكم عليها فإنها تشتعل وتتقد، واستخدام زهير لأسلوب الشرط وتصديره بـ(متى) يدل على أنَّ هذه الحرب لا يُمكن أن تأتي إلا حالة واحدة لا تتغير، كما أنَّ في هذا البيت تجسيداً بديعاً للحرب بجعلها كائناً حياً يُبعث بعد أن كان ميتاً، كما أنَّ في الشطر الآخر استعارةً مكنيةً حين شبَّه الحرب بالنار، وحذف النار وأتى بشيء من لوازمها وهو الاشتعال والاتقاد، وفي هذه الأساليب شدَّة التحذير من الحرب والتنفير عنها، بتصويرها بأبشع الصور، وأقبح الأشكال، فهي مرةً كائنٌ ذميمٌ كان ميتاً فبعثتموه أيها الأحلاف باختلافكم، وهي مرةً مثل النار المتقدة أشعلتموها فأتت على الأخضر واليابس.
وفي البيت الأخير من هذا المشهد يكشف زهير بن أبي سلمى عن النتيجة النهائية لهذه الحرب القبيحة، ويبين أنها لا تأتي إلا بالموت والدمار والخراب والفناء، حيث يشبهها بشيئين، ففي الشطر الأول يشبهها بالرحى التي تدور فتطحن الناس فلا تبقي منهم شيئاً، أما في الشطر الثاني فيشبهها بالناقة التي تحمل عامين متتاليين وهو مضرٌّ بها، فتلد في كلِّ عامٍ التوائم، كنايةً عن كثرة الشرور والمصائب التي تأتي بها، وفي كل هذه الصور والتجسيدات تفظيعٌ لأمر الحرب، وتشويهٌ لصورتها، وتحذيرٌ من عاقبتها، وحثٌّ على الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يشعلها أو يثيرها؛ لأن العواقب حينها ستكون وخيمة جداً.
- omar1401@gmail.com