فيصل الجهني - جدة
مهما يكن من أمر الرواية، في مراحلها المتعاقبة، من رواية الحدث، إلى رواية الشخصية النمطية، إلى الرواية الدرامية، إلى الرواية التجريبية، التي كرست ذاتها لتغييب الحكاية وتفعيل صيغ سردية متعددة في المتن المغيب.. مهما يكن من تجليات ومكونات روائية متنوعة الأهداف واللغات والتقنيات، فإن (الشخصية) تظل العنصر الأكثر أهمية وحضورا وتأثيرا في تلك التجليات المتنوعة.
وتظل زاوية الرؤية لها مختلفة، باختلاف قدرات الكتاب (وإمكاناتهم) الروائية، ليفضي ذلك الاختلاف إلى غابة روائية هائلة، يتقاسم فضاءها المعشب الروائيون في معاولهم المحترفة، وفاء لجماليات هذه الغابة الآسرة، كما هي (بعض) أطيافها الآتية:
#تولستوي يستميت في القبض على ما يجول في رأس تلك الشخصية خلال اللحظة الحاضرة، قبل أن تصبح ماضيا في اللحظة التي تليها، بشرط أن تكون تلك الأطياف الداخلية من اللحظات الحاسمة في حياة شخصياته (كأن تكون لحظة ميلاد لمشاعر جديدة، أو لحظة انتحار كاملة للمشاعر وأجسادها معا)، أو هي اللحظات المرتبطة بالانعتاق من عبودية ما، أو الإصرار على تجاوز مفازات مستحيلة، وفاء لقيمة أو لإنسان أو لوطن..
#جيمس جويس بعد تولستوي بخمسين عاما يشتغل على أرق تلك اللحظة الحاضرة التي يجب القبض على مؤطراتها عبر الـ(stream of consciousness) للمونولوج الداخلي ذاته، ولكن من غير اشتراط لحظات حاسمة، إذ يكون من الممكن-بالطبع- قبول التفاصيل السردية للحظات عادية في حياة الشخصيات.. اللحظات الرتيبة التي يمر بها الناس في أيامهم المألوفة، ولكن القدرة الروائية الخارقة لجويس جعلت من تلك الألفة المبتذلة أسطورة ملحمية كبرى، بعد مرور تلك المشاهد البسيطة على أجهزة محترفة لتضخيم وتعقيد كلما يحدث، إلى أبعد مدى!
#أما فيدور ديستوفسكي، فقد كانت مهمته المستحيلة، هي أن يجعل من كل شخصية واحدة شخصيتين اثنتين، إذ المهم دائما الشخصية الحقيقية المتوارية بحزم وراء حجب كثيفة من الشخصية الخارجية، التي تظهر أمام الناس. هذا الحوار بين الجوهر والمظهر في بناء الشخصية، يأتي متسقا مع الكرنفال الحواري الذي يحيط بالشخصية من جميع الجهات، شاملا صيغ السرد وأصواته ونصوصه ورؤاه.
#وبالنسبة (لفولنكر) فهو يعلن العمل على الشخصية الروائية، من خلال الكشف المستميت عن الطريقة التي تتخلق بها الفكرة في ذهن الشخصيات الوجودية القلقة (قاتل..امرأة مغتصبة ..منتحر..)!
#وفي اتجاه آخر صوب القارة اللاتينية يلوح الكولومبي (ماركيز) للشخصيات التي يستطيع بأسلوبه السحري العجائبي أن يصور أبعادها (الانثربولوجية) التي يمكن من خلالها رؤية العالم عامة، وواقعها الاجتماعي خاصة!
#(كافكا)..في اتجاه أبعد، لم يكن ينظر إلى الشخصية إلا باعتبارها أداة تعكس لا معقولية الواقع وعنفه وغرابته!!..وهكذا....!
وإذا كان ذلك المشهد جزءا من غابة الروائيين، التي نهضت أشجارها الوارفة بشخصياتهم الآسرة، فإن الزائرين (المختصين) بشؤون هذه الغابة من ذوي رتبة (النقاد) يختلفون تبعا لتنوع تعاطي مزارعي الغابة الروائية مع الشخصيات ذاتها..
فزوار الرحلة (الشكلانية) الروسية بقيادة فلاديمير بروب، لم يكن يعنيهم الشخصية ذاتها بقدر ماكانوا يهتمون بالوظائف التي تنهض بها تلك الشخصيات.
أما صديق دستوفسكي في ذات الجزء الباهر من الغابة (ميخائيل باختين)، فإنه يذهب بعيدا عن حكاية الوظائف تلك، إلى بحث أكثر تعقيدا وكشفا عن الشخصية..وهو الذي لطالما كان يردد بأنه: «ليس الوجود المعطى للشخصية، ولا صورتها المعدة بصرامة، هو ما يجب الكشف عنه، وإنما هو وعي البطل وإدراكه لذاته، أو بعبارة أخرى كلمته الأخيرة حول نفسه والعالم من حوله»!
وهكذا، تتجلى غابة الرواية الباذخة بشخصياتها المتنوعة أدبا ونقدا.. ما دامت (زاوية) الرؤية لتلك الغابة تتحول في كل مرة، من الأعلى إلى الأسفل ومن الداخل إلى الخارج.. وفي كل الاتجاهات!