نواصل مع دراسة بروفيسور مليكة زيغال:
تطوير يهدف للعقلنة وإلغاء لأسلوب التكرار والحفظ لقد شكّل فرض المواد الدراسية الحديثة على العلماء وسيلة لإجبارهم على التعامل مع الحداثة واستيعابها؛ فبدلاً من حضور «الكُتَّاب» بإشراف شيخ معمم يمسك بالعصا بين يديه، أضحى الطالب الأزهريّ الشاب يتلقى مزيجاً من الموضوعات الدينية والحديثة في الفصول الدراسية الحديثة للمعاهد الابتدائية والثانوية الأزهرية. ومن ثَمَّ، كان عليه أن ينسى الطريقة القديمة لتلقي المعرفة؛ أي الجلوس على الأرض في دائرة معطلاً بآخرين، والاستماع إلى القرآن الذي يتلوه الشيخ ويرددونه بعده. لقد جاء الإصلاح بأسلوب مادي جديد لتعليم الطالب الأزهري، إذ أصبح الطالب يجلس على مقعد، ويكتب على طاولة وأمامه سبورة. وكان هذا التحول المادي في طريقة تلقي المعرفة يعني أكثر بكثير من مجرد التحول من جلسة القرفصاء الأرضية إلى الجلوس على مقعد أمامه طاولة. لقد كان من المفترض أن تصاحب هذا التحول «عقلنة» للمعرفة ذاتها وإلغاء لأسلوب التكرار والحفظ.
أكثر من ذلك، قدّم الإصلاح للأزهر طلابا تعلّموا في نظام التعليم الحديث؛ فبعد الانتهاء من المدرسة الثانوية الحديثة،كان يمكنهم أن يختاروا متابعة تعليمهم في إحدى كليات الأزهر الدينية الثلاث أو كليات الطب أو الهندسة أو الإدارة العامة أو الصيدلة، أو تخصصات حديثة أخرى (18). وبناء عليه، انقسم التعليم الأزهري الحديث بعد 1961، بصورة غريبة، إلى نظامين: علماني وديني؛ نظراً لأن «الإصلاح» أدخل كليات حديثة داخل نظام التعليم الديني. وكان الهدف المعلن هو إعطاء العلماء ميزات جديدة تساعد على دمجهم في المجتمع الحديث، وإنهاء العزلة التي من المفترض أنهم يعانونها، وسوف يتمكنون من ممارسة مهنة فنية (غير دينية)، فضلاً عن تدريس الدين وتأدية واجب الدعوة إذا رغبوا. ومن هنا، فقد ركّز العلماء الذين أيّدوا الإصلاح إبان ذلك الوقت على فكرة وحدة الدين والدنيا، وزعمت مذكرة قانون1961 برغبتها في توحيد هذين المجالين:
«لا يزال خريجو الأزهر... رجال دين، وبالكاد تربطهم أية علاقة مفيدة بعلوم الدنيا. لا يفصل الإسلام، أصلاً، علوم الدين عن علوم الدنيا؛ لأن الإسلام دين اجتماعي... كل مسلم يجب أن يكون رجل دين ورجل دنيا في الوقت نفسه» ا.هـ.
إصلاح الأزهر بتلك الطريقة كان يعني جعله أقرب إلى التعليم الحديث، ويدفع العلماء نحو الحياة العصرية بدون التشكيك في جدوى وجودهم؛ وهو أمر حيوي للنظام. وبالنسبة إلى الأزهريين الذين قبلوا التحالف مع النظام الاشتراكي،كان قانون 1961 يهدف إلى جعل عملية الدعوة أسهل من خلال إعطاء الفرصة للعلماء ليعملوا في المهن الحديثة.
ووفقا لهؤلاء العلماء،كان الإصلاح يهدف أيضاً إلى تحويل الطالب الأزهري إلى شخص ذي ميزتين:
(أ) عالم ديني فهم العقيدة الدينية، و(ب) شخص يستطيع ممارسة مهنة فنية(غير دينية) تربطه مع الناس.
وفي الستينيات، قدّم النظام هذا التحول الجديد للطالب الأزهري كوسيلة لنشر الدعوة داخل مصر وخارجها. وأوضح لي الشيخ حمدي، وهو محاسب تخرّج في كلية التجارة الأزهرية، رؤيته لوحدة الدين والدنيا:
«من وجهة نظر أخلاقية، ولكنها أيضا وجهة نظر علمية ودينية، لا ينبغي أن أكون مجرد محاسب بسيط وعادي... بل على العكس، يجب أن أتحدّث عن الدين وجميع الأمور المثارة في الساحة؛ بل بمجرد دخول الأزهر كان يجب عليّ أن أصبح مختلفا تماما عن ما كنتُ عليه قبله. كان يجب علينا أن نصبح طلابا أزهريين «حقيقيين». الأزهر... أو أزهري ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني شخصا يدعو الناس إلى العودة إلى الله. وعليه، يجب أن تختلف شخصيتنا تماماً عمَّا كانت عليه قبل دخولنا الأزهر» ا.هـ. (20)
وحتى لو استاءت الغالبية العظمى من علماء الأزهر من مشروع إصلاح الأزهر، إلا أنهم يتفقون تماما مع صورة الأزهري «الحديث» باعتبارها تجسيد المعادلة وحدة الدين والدنيا. لقد كانت عملية إعادة تعريف وظيفة الأزهر هي طريقة النظام الحذرة لتركيع العلماء وإخضاعهم بصورة مخاتلة لا تنتج عنها معارضة من سِلْك العلماء بأكمله؛ نظرا لأن الأزهر كمؤسسة دينية رسمية يحتاج للدعم، وكان أيضاً يتوسع باستمرار عبر إضافة كليات حديثة وعبر قناة الدعوة الخارجية. وبهذه الطريقة، كان هذا المشروع استمرار البرامج الإصلاح السابقة للأزهر، ويمكن أن يحظى بدعم من العلماء الإصلاحيين. وعبر فرض مثل هذا التحول الغامض على نظام التعليم الأزهري وعبر إدخال انقسام ثنائي Dichotomy للمعرفة (دينية وحديثة) إلى الأزهر، وضع عناصر المؤسسة الدينية في معضلة مستمرة حتى هذا اليوم. يجب على الأزهر النضال ليختار أحد أمرين: إما أن يفقد هويته الدينية خلال عملية التحديث والتوسع، أو أن يرفض التحديث ليحافظ على وضع ديني حصري سيتقلص حتماً مع مرور الوقت.
تغير هيكل الأزهر: سياسة التوسع
جامع التبرعات الشيخ عبدالحليم محمود
قام الشيخ عبدالحليم محمود، الذي عمل شيخا للأزهر بين عامي 1973 و1978، بدور رئيس في توسيع الأزهر؛ فقد أعطى الشيخ محمود لهذه المؤسسة الدينية ميزات جديدة عبر تقوية دورها وتعزيزه على الساحة العامة،كما نجح في فتح معاهد الأزهر الابتدائية والثانوية لعدد متزايد من الطلاب. (21)
الشيخ عبد الحليم محمود ينفذ
إستراتيجية لإعادة المجتمع إلى الإسلام
لقد كان هذا التوسع جزءاً من ما أسماه محمود بنفسه «إستراتيجية متكاملة» لإعادة المجتمع إلى الإسلام. كما ركز الشيخ، أيضاً، على التوفيق بين الهوية المصرية والإسلامية للأزهر، الذي اعتبره مؤسسة تخدم العالم الإسلامي بأكمله. وفي رسالة بعث بها إلى قادة الدول العربية في عام 1976(22)، طلب منهم تبرعات مالية لتوسيع الأزهر، بحجة أنه كان يكافح دائما المبادئ «المنحرفة» مثل «الاشتراكية»، التي مثّلت وقتها «خطراً على الدول الإسلامية». وتلقى الأزهر رسمياً تبرعات من الدول العربية بلغت ثلاثة ملايين دولار، وجاء ثلثا التبرعات من الكويت والمملكة العربية السعودية (23)؛ ولكن المبلغ الفعلي الذي تلّقاه الأزهر هو، بالتأكيد، أكبر من هذا الرقم (*). وجاءت هذه الإستراتيجية ليس فقط باعتبارها نعمة مفرحة للحكومة المصرية التي كانت تواجهها النتائج المترتبة على دمقرطة التعليم؛ ولكنها ساعدت في عملية تحول الأزهر نفسه. فلم يعد الأزهر ذلك المغناطيس الذي يجذب شباب الريف إلى مدينة القاهرة، كما وصفه المستعرب جاك بيرك في نهاية الستينيات (24)؛ ففي الثمانينيات، كانت كلياته ومعاهده منتشرة على طول نهر النيل، ومصدر قدوم الطلاب لم يعد محصوراً على الريف.
خلال الستينيات، كان عدد طلاب المعاهد الدينية متواضعا جدا. ولكن من السبعينيات ولاحقا تزايد عدد الطلاب الذين يدرسون في هذه المعاهد بمعدل كبير. (25)بعض الطلاب الذين فشلوا في أن يلتحقوا بمدارس ثانوية حديثة تم قبولهم في المعاهد الثانوية الأزهرية، وحصلوا على فرصة ليتخرجوا من الجامعة بدون تلبية المعايير الأصعب للجامعات الحديثة. أولئك الذين لم يتمكنوا من دخول المدارس والجامعات الحديثة منحوا الآن حرية الوصول إلى المهن الحديثة عبر قناة المعاهد والكليات الحديثة في الأزهر.
ويرى معظم العلماء، اليوم، أن عملية دمج الدين بالحياة، التي كان من المفترض أن تنبع من تطوير الأزهر، مُنيت بالفشل؛ فبدلاً من تعزيز تفاعل وثيق بين المجالين، نتج عن تحديث الأزهر مجرد «تجاور» لهذين المجالين (بدون تفاعل)، ما أدى إلى فشل الاندماج. وعبر إعطاء الطلاب معرفة دينية وحديثة مختلطة يستحيل استيعابها وفقا لمعظم المدرسين في الأزهر، فقد حوّلهم الأزهرُ إلى علماء عصاميين يعلّمون أنفسهم، ولم يعودوا يحفظون القرآن الكريم عن ظهرقلب.
أعطاني الشيخ حمدي الصورة التالية عن التطوير: «الأزهر وُضع في هذا الموقف عبر المخططين في الدولة. تطوير الأزهر كان، في الواقع، تدميرا له. عندما قرّر الشيخُ عبدُالحليم محمود استعادة عظمة الأزهر، عبر فتح عددكبير من المعاهد لجزء كبير من الشعب،كانت هذه الفكرة قد خُططت تخطيطا جيدا جدا؛ ولكن مشروع تطوير الأزهر لم يكن مفيداً للغاية (**)... فقد أصبح طالب الأزهر يتلقى المعرفة الدينية بجانب المعرفة العلمية الحديثة، وهذا الأمر أكثر صعوبة مما سبق. كيف يمكن للمرء الذي فشل في تعلم العلوم الحديثة أن يأمل في أن ينجح عند إضافة المعرفة الدينية إلى المنهج؟».(26) هذا التقييم القاسي يبدو وكأنه صدى للانتقادات التي تلقتها مشاريع الإصلاح في الخمسينيات من الدوائر المحافظة في الأزهر، كجبهة العلماء:
«لقد كانوا يهتفون... يجب أن يكون عالم الأزهر طبيبا أو مهندسا، أو شيئا من هذا القبيل... ولكن لايوجد طبيب ماهر يمكن أن يكون في الوقت نفسه عالما بارعا في الشريعة الإسلامية؛ بل لن تجد عالم دين يستوعب مبادئ الهندسة جيدا ويتمتّع بمعرفة إسلامية متميزة».ا. هـ. (27)
بزوغ ميول إسلاموية في الأزهر
وأدى تعرض الطلاب الأزهريين لمزيج من المعرفة الحديثة والمعرفة الدينية في الأزهر إلى حدوث تماثل مع ظروف الجامعات الحديثة؛ وهو ما يفسر- جزئياً- لماذا ظهرت ميول إسلاموية (أي ميول إلى الإسلام السياسي) بين علماء الأزهر الشباب (***). وأعطى تحليل الخلفية الاجتماعية والتعليمية للإسلام ويين العنيفين في مصر وأماكن أخرى في العالم الإسلامي السني نتائج مختلفة، حتى الآن، عن الطبقة الإسلاموية المثقفة الشابة الجديدة التي تخرّجت من الجامعات الحديثة.
هوامش المترجم:
(*) يشيرمصدرحديث: «... وعزَّز السادات العلاقات مع المملكة العربية السعودية كخطوة أولى في تحوله من الشرق إلى الغرب. وهكذا بدأت قيادات دول الخليج بضخ المال لتعزيز الإسلام المحافظ في جميع أنحاء المنطقة وخصوصاً مصر. وقدَّم الملك فيصل للشيخ عبدالحليم محمود 100 مليون دولار في عام 1971 لدعم الحملة ضد الشيوعية والإلحاد. هذا المبلغ استثمر في توسيع الحرم الجامعي الرئيس للأزهر وفروعه في جميع أنحاء مصر...» ا.هـ. المصدر: موشيه ألبوويور امميتال، دراسة منشورة بالإنكليزية بعنوان «المسار المستقل لشيخ الأزهر عبدالحليم محمود»، في «مجلة عالم الإسلام» الألمانية (Die Welt Des Islams)، مجلد 54 (عام 2014)، ص 167 ، هامش رقم 19. (العيسى)
(**) بل كان مفيدا جدا للعلماء كما ستثبت هذه الدراسة. (العيسى)
(***) أي ظهرت الميول الإسلاموية بين العلماء الذين درسوا وتخرجوا وفقاً لمناهج الأزهر المطورة وهذه مفارقة مذهلة. (العيسى)
يتبع ...
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com