الثقافية - محمد هليل الرويلي:
الزياد سالم ثائر حيال ثكنات الجمود مجحفل بعصرانية التكتيك متيم بسبر المكتنه وغور الحقيقة سابر لأحلك العضل يسرب أراضي التيه ويخلع على مفاوزها فنارات الرشدنة، الزياد يجيد فك شيفرة الألغام ويستوطن سدتها يشطب الزمكان بفخرانية اتهاجه وأثرويته الزياد يوصل هرم الجمال إلى بحبوحته وكرومه سافر حد الوضوح غائر حد لغة العمق حينما يلهج تكاد تجزم بزرداشتيته المقدسة عصي على التكرار مصبوغ الفردانية مرهبن في صومعة التجلي الزياد نخشاه حد الجفاء ونعشقه حد التحنان الزياد يفتح التآويل ويكسر الموروث ويضم الدرر؟ الزياد ماخر في عباب الاستثناء والتقدسن!
«المجلة الثقافية» تترككم مع هذا اللقاء الساخن الشفاف الماتع مع الكاتب والشاعر والناقد الروائي السعودي زياد بن عبدالكريم السالم.
الروحانية خيط رفيع بذاتها فكيف أن تدرعت الرمزية في توظيف المعتقد ألا ترى بأنها في أحايين كثيرة تولد انفصامًا حادًا خاصة لدى القارئ العادي مما يسهم في عدم تبلورها لديه؟
ليكن ذلك، الكتابة الإبداعية بشكلها الجمالي المحض لا تتوسل القيم القرائية المعهودة، ولا تبحث عن إطار وظيفي يكرسها ضمن أفق المتوقع أو المنتظر، إنها مغامرة على طريق بلا علامات، أو بالأحرى لها علاماتها السرية التي تتغير باستمرار، الكتابة إزاحة وتحول نحو ما? يرى، وهي ممارسة رغبوية تبتكر خرائطها ومساراتها بدافع اللذة الخالصة، بل سأكون أكثر تطرفًا: إن الكتابة الجذرية تستنبت إمكاناتها في حقل: (الصمت - الموت) لذا فطاقتها عصية على الجس أو القياس، أما أشارتك إلى الروحانية والرمزية وتوظيف المعتقد، هنا سنقول: إن الفن ذو طبيعة ميتافيزيقية، وهذا الكائن «الذي سبقه جرحه إلى الوجود» ليس بوسعه أن يتخفف من ميراث الخطيئة إلا باقتراح آلة للنسيان! آلة لا تملك تاريخًا سريًا يبتدئ قبلي ودائمًا يسبقني، وإنما تتشكل هذه الآلة - التي لا تكف عن اللعب - انطلاقًا من المستقبل، فهي غريبة ومفاجئة تجهل مصيرها الكوني، ولا تعبأ لمصير الكائن، لكن أسرارها تتوالد وتحرضنا على محو خطيئتنا (الأصلية) أما مسألة «توظيف المعتقد» فالحديث عنها يتطلب استطرادات وتفصيلات كثيرة، لكن سأشير إلى وجود فوارق جذرية واختلافات جوهرية ما بين فضاءات الأسطورة وشظاياها وشراراتها العريقة وهي ما نعول عليه، وما بين النسق العقدي المغلق الذي يسطح النص ويقيده ويخفض طاقته.. وتجدر الإشارة إلى تجاور الفلسفة والفن والدين على مستوى الأسئلة واستقصاء أسرار الروح.
التعايش قضية ملحة وضرورية في عوالم الحياة والبداهة فمن غير الطبيعي التعثر في مناهضة هذه القضية الجوهرية ما السبب؟
- لا نحب الطائر الذي يعبر وحيدًا في السماء، وإنما نحب السرب الذي يطير «التعايش غريزة أصلية في الكائن، فالذات تصير ذاتًا عبر آخرها» إن المبدأ الأساسي للتعايش يقوم على الاختلاف كحركة توالدية تباعد بين الأشباه والنظراء، فالآخر شبح يظهر ويختفي، إنه طيف لاحتمالات متعددة وليس بصمة على حجر، أو صورة للتقمص والخلع، إذا أخذنا منحنى العلاقة بكليتها، سنجد أن الأبعاد والقيم الأساسية في الوجود إنما تتأسس على قانون التعايش وهندسته التي لا تقبل الدحض، فالموت كهاجس أنطولوجي ليس بوسع الإنسان أن يهجس به إلا ضمن معادلات ومتواليات التعايش، أنا أعيش فردانيتي وأتلقى موتي ضمن شبكة اجتماعية معينة، غير أن المأزق الحاد يتمثل في خطابنا الثقافي الطارد لهذه الروح (روح الحوار التفاعلي مع المختلف والغريب) ثمة إكراهات كثيرة وتكاليف قاهرة أدت إلى خلق حواجز تمنع الحوار أو على الأقل تجعلنا نتكور على ذواتنا كلما داهمتنا صدمة تختبر وضعيتنا في الوجود وتفحص تموضعنا في العالم، لا سيما وأن النسق الغالب والمهيمن لا يرى إلا ذاته بصورة توكيدية فيما ينفى ما عداها كشكل من أشكال الحضور وألا نوجد، ثمة فكرة تستحق التأمل والتدبر: «الاختلاف أصل، نحن نتشابه لأننا نختلف، ولسنا نختلف أننا نتشابه «هنا ينبغي القول: إن التعايش أساس العالم ورابطته اللا متناهية من التمثلات عن الزمن والآخر والوجود والموت، وهو مفهوم يتشكل من طبقات ومستويات، حتى آلية العلاقة بين المشير والمشار إليه تستمد كفاءتها التمثيلية ضمن إطار التعايش وإشاراته العميقة بالغة الأثر، ولعل انبثاق المواطن الكوني الذي مهما التفت لن يجد ظلاً يتبعه بعد أن دمر ميراثه القديم نقول: لعله سيكون فاتحة الممكنات لصعود كائن شبكي يتمتع بكثافة جمالية تحرضه على ادماج مكونات وعناصر جديدة من ثقافات مختلفة ليكون أكثر انفتاحًا وبالتالي: يتساءل ويختبر كينونته في حقل الآخر ومرآته.
نلحظ تدافق التسطيح المعرفي والممنهج بشكل مزدحم في ظل قنوات التواصل والتقنية على عقلية المتلقي مما يسهم في تضبيب الرؤية لديه فهل ثمة عوامل رئيسة تساعده على تفعيل لغة الفلترة والقشع عن حجاب النور؟
- لقد ولى زمن الألواح والوصايا المقدسة، نحن نشهد الآن منعطفًا حاسمًا في تاريخ البشرية مع هذه الثورة التكنولوجية والإعلامية الهائلة، ونعيش في زمن «نهاية الجغرافيا» إِذ لم تعد الحدود تعني شيئًا في ظل سرعة تداول المعلومة، إن المجال التداولي لهذه التكنولوجيا يتسم بالمراوغة والمرونة والتشظي، في هذا الزمن الضوئي تحضر الأشياء على نحو شبحي، حيث الأشياء سائلة ومتحولة وبلا هوية، غير أن ما يلفت انتباهي مسألة أساسية تتعلق بامتلاك الكائن لروح المبادرة أكثر من أي وقت مضى، مع الإعلام الجديد وقنوات التواصل صار الكائن يصنع الحدث ويغير اتجاهه بشكل مفاجئ، هذا هو السلوك الانفصالي اللا تنبؤي، وهو غير خاضع لقوى الضبط والسيطرة كما كان الوضع في عصور سابقة حيث الصورة السائدة والمكرسة لكائن خامل ونمطي يتلقى ما يحدث بسلبية كمتفرج محض لا يملك إرادة أو سببًا لصناعة مصيره! الآن تغيرت قواعد اللعبة وانهدمت ذاكرة الأسانيد «لقد تحول العالم مع التقنية، إنه الوجود وقد اتخذ صيغة رياضية مختلفة عمّا كان» وما نراه ونلمسه من (هشاشة واعتام في الرؤية) إنما يدلل على علامات التحول وبروز المخبوء وتمزق الذات الكلية، إن الهويات المستقرة والمدونات الكبرى باتت أثرًا بعد عين، حتى وإن بدا المشهد - وبطريقة مخاتلة - يقدم مثالاً موغلاً في سلفيته وكأنه بشارة المستقبل! أرى أن هذه الهويات والخطابات الدوغمائية إنما تنبعث وتتوالد في الحدث لتتم عملية تصفيتها بالكامل، هكذا تكون «حيلة العقل في التاريخ» ضمن منعرج من منعرجاتها.
الأحداث المؤلمة تجعل الحياة صعبة لكن عندما نتخفف منها بالكتابة تصبح محتملة كيف تعيش هذا الاحتمال؟
بخلاف ما يراه الكثيرون، لا أظن أن الكتابة تخفف من أعباء العالم وكوارث المصير، الوجود ورطة لا مفر من مغبتها، أحدهم قال: «أنا أكتب لأنني لا أملك عينين زرقاوين «قد تكون الكتابة شكلاً من أشكال مقاومة شبح الموت وبذور الفناء، لكن إذا فسخنا القناعات الأولية، سنجد أن الهاوية تحدق في وجوهنا سواء نظرنا إليها أو لم ننظر (مع الاعتذار لنيتشه لتحريف شذرته) رغم إمعاني في تقديس الكتابة وشغفي في تقصي أسرارها إلا أنني أرى أن نزهة مع صديق في قارب تسيل عليه الشمس أو الصمت داخل معبد قديم أجمل من نصوص العالم! لقد تغيرت في الآونة الأخيرة إِذ أجد أنني أخطأت بحق نفسي حينما انغمست في خطيئة الكتابة، ليتني كنت رفيقا للرعاة أعلق الناي في جعبتي واستلقي على السفوح حارسًا لغيمة تعبر في سماء الله، أو قرصانًا يتباهى في قدرته على تخريب البحر ثم يلتقط جمجمة تفيض منها خمرة رشيقة كدم الطير، لقد ابتلعت في حياتي الكثير من العلامات السوداء ولم أصبح قرصانًا بعد!...هنا أقول: إذا لم تكن الكتابة قادرة على إنجاز معجزة شخصية فالصمت أجدر وأجمل، حينما اعتزل الشيرازي بين الجبال نسي نفسه، لقد عبر صراطًا معلقًا بين جبلين ثم تاه في بطون الأودية ولم تنقذه الكتابة من وحشة الترحال وعتمة المسافات.
تراب الوطن عالق في حروفك إلى أي مدى سيظل هذا التراب عالق في روحك؟
«الوطن مادة لاصقة»
سيوران....الكتابة تبتكر خرائطها وتعيد بناء العالم من منظور مغاير، بحيث لا نتعاطى مع الوطن كهوية مغلقة وممتنعة غالبًا، وإنما أرى الوطن بوصفه فضاء لانفتاح الصيرورات وتحولها من شكل إلى آخر، إذا لم يمنحني الوطن إمكانية قصوى للتحرر أي أن أظهر على مسافة من نفسي، وأن أشكل صيغة خاصة للوطن كما أراه، إذا لم يكن متمتعًا بالقابلية المرنة للتحول فلا قيمة له، بل سيكون مقدودًا من أفق أسود وستكون متغيراته التدميرية متقدمة ولا سبيل لمواجهتها، سألتني عن «تراب الوطن» وبالفعل هو عالق في روحي، التراب مادة متاحة رخيصة ومبتذلة لكنها أساسية ومصدر خصوبات لا تنتهي، أتذكر الآن: حين كنت طفلاً ألعب في باحة ترابية أمام شارع البيت، كنت أتلفت وإذ لا أرى أحدًا التهم التراب فأشعر ببهجة غريبة، التراب كان لذيذًا، لكنه الآن ومع الزمن فقد لذته من فرط ما ارتطمت بالآمرين الذين يهددونني دائما: «التزم وإلا ستأكل ترابا»!
الوطن بيتي بقدر ما يعترف بحقل رغباتي وأكون قادرًا على تحقيقها في مساحاته، في تاريخ الحروب إنما يدافع الإنسان عن نشيده الوطني وعلم بلاده، من أجل غايات أولية لكنها أساسية تتجسد بذكريات المقهى وشارع للحب وبيت للاستقرار، لا وجود للوطن إلا إذا تحقق فضاء الحرية، إذا ضاقت خريطة الوطن وامتنعت هذه الحقوق سيتحول الكائن إلى خلد! وقفزة الخلد مخيفة، تنسحب إلى الداخل.
شكلت مع الأديب عبدالرحمن الدرعان ثنائي الثقافة الحديثة بالجوف إلى أي مدى استطعتما وضع بصماتكم الثقافية بالمنطقة؟
لا بصمات ولا يحزنو.. الدرعان كثير التوجس ولم يستطع رغم طاقاته وإمكاناته أن يخلق نبتة واحدة، فهو طائر غريب لا ينتمي إلى المكان، وقد كان وحيدًا في مرحلة صعود الصحوة قبل أن أظهر أنا (بعد 2002 م) لأتقاسم معه الجمر والحريق، كان دائمًا يقول لي عن مكابداته واضطراره للمناورات الوقائية في الثمانينات ووصف نفسه بأنه: «حبة الشعير الوحيدة - في تلك المرحلة- التي نجت من المطحنة» طبعًا تربطنا روابط روحية غير قابلة للانفصام، لكنه يميل إلى الاعتكاف في بقعة مقدسة ويصر على أن تكون أوراق اللعب سرية ومشفرة، فيما أنتهج أنا إستراتيجية اللعب على المكشوف، لو كنت في موضع مسؤولية أو في دائرة صناعة القرار لنصبت المشانق للتكفيريين والإرهابيين في الميادين العامة في كل مدينة، أعتقد أننا مقبلون على مرحلة: «سنوات الرصاص» ولكن مع تقييد هذا القول وحصر دلالاته في استهداف وتصفية الفئة الضالة.
بعد انطلاقة تشكيل مجلس أدبي الجوف وضح بشكل جلي محاولة تجاوزكما في المناشط والدعوات بدعوى إتاحة الفرص لبقية المثقفين بالجوف في حين يعتبر المثقف الحقيقي أن هذا الإجراء محاولة خنق واغتيال لثقافة المنطقة كيف عشتما هذا الوضع في بيئة من المفترض أن تكون هي الداعمة الأولى لكما؟
- استطيع القول بطمأنينة: إن حجر التأسيس - رسم السياسة العامة للنادي من نصيب الدرعان أما المرحلة الذهبية التي اتسمت بالحراك الثقافي والطفرات والحرائق الدائمة فمن نصيب إبراهيم الحميد، وبعد رحيل الأخير انكفأ النادي على نفسه وأصبح مكبا للرماد! ربما أخطأ إبراهيم في نقطة واحدة تتعلق بالإصرار على استضافة حليمة مظفر بالرغم من أنها شاعرة متواضعة ولا تستحق الثمن الذي دفعه إبراهيم من أجلها، حليمة صنيعة أدبي الجوف ليس إلا.... ليته استضاف حليمة بولند لكانت تستحق تلك الفتاوى السوداء ورسائل التهديد التي كادت تودي بحياته في تلك الفترة المؤلمة، أما فيما يتعلق بسؤالك: بالتأكيد لقد حاربتنا إدارة محمد علي صالح رئيس النادي لقد سعى بشتى الوسائل لتجاوزنا هو ومجموعته، هاتفته يومًا وقلت له: «نحن رقم صعب ولن تستطيع القفز علينا بسهولة» وطلبته للمناظرة وأن يجعل معه من شاء ظهيرًا، لكنه لاذ بالفرار، لقد دبروا مكائد رخيصة وكانت حيلتهم لا تتجاوز دائرة خطواتهم، نحن لا ننتظر صافرة أو إشارة ضوئية من أحد لننطلق، أمقت حروب الشوارع الضيقة، إِذ خلقت للآفاق والفضاءات اللا متناهية، هنا أقول: لست مع مشروع الانتخابات لأنها تصعد بالمتخلفين وحملة الأبواق، لا أرغب في رؤية القطيع متسللا إلى أروقة المؤسسة الثقافية حاملاً ثقافته الرعوية ليفرضها على العالم وعلينا.
تخرج لعالمك الافتراضي برؤى قد يراها البعض غريبة في الطرح والتناول فيما يصفق لها آخرون ما هو مشروعك الذي تحمله؟
- دخلت العالم الافتراضي عبر بوابة العشق فكانت الشظايا أكثر من أن تحتملها الريح! الآن ومن حسن الحظ وضعت حدًا لهذه النار، وفي الوقت نفسه صرت صيادًا نادرًا إِذ لم استطع تجاوز الحب المقدس إلا عندما صرت صيادًا نادرًا لي في كل مدينة طرائد وهاوية وخطايا! بالعودة إلى سؤالك عن غرابة الرؤى أقول: أنا مسكون باليورانيوم المشع ولا احتمل المصالحة مع السائد واليومي، إنني أنزع إلى نقض المواضعات وخلخلة المعادلات الثابتة، ليس بوسعي الائتلاف مع التواتر الكمي الذي يرسم منحنى العلاقات ويحدد تراتب كائناتها، إن حركة التصور حادة ومتغيرة في داخلي، سرعتها الهائلة لا تطاق، فهي تلقيني في الجحيم بالرغم من أنها تمنحني مغامرة السفر عبر الأزمنة، مشروعي يتقاطع مع مبدأ اللا تحدد أو اللايقين (الظاهرة تحت المجهرية في الفيزياء الدقيقة) ربما ستظهر هذه العناصر في مرحلة قادمة على دروب الكتابة والحلم.
نصوصك الشعرية موؤودة أم إنك تنتقي منها الجواهر ومتى سترى مجموعتك الجديدة النور؟
- حظي عاثر ولا مستقبل لي، ومن جهة أخرى لا يعنيني أن أحجز مقعدًا مشرقًا تحت الشمس! أكتب كي أدرب نفسي على الحلم، فالواقع ضيق وثقيل، لا بد من حالات ذهانية تتصف بالاشتداد كي نفلت من واقعية ا?شياء ونتخلص من عكارة المحيط، أنجزت ثلاث مجموعات ولست بصدد الحديث عنها، أما القادم - اشتغل عليه حاليا- فهو كتاب فلسفي ولا أعلم متى سيرى النور «الصفر الأزلي».... لدي مخطوطة رواية كتبتها بأصابع الديناميت ولا أعلم كيف أنشرها، وكتائب الأصوليين تتربص بنا في كل مسلك وطريق، اشتغلت عليها برغبة محمومة بالندب والبكاء، إنها رواية تثير الحزن، تتسم بالتجريب وابتكار الأساليب على مستوى المعمار الفني، تتفلت بين طياتها روح الجريمة وينبع من عوالمها نشيد الموت، ما أراهن عليه في هذه الرواية هو كيفيات البناء واللعب وكثرة الحضورات ومكرها الفائق أثناء صعودها وانكسارها في الزمن، ميكانيزمات الوصف والحركة والتوتر الشعري للشخصية والصورة البصرية - الحوار الإضماري - بالإضافة إلى عناصر جديدة اشتغلت عليها بعد اجتذابها من خامات وحقول بعيدة كل البعد عن فضاء الأدب... دائمًا هناك عالم ورواية، لكن السؤال: كيف أكتب رواية مختلفة بحيث أصنع انفجارًا كبيرًا يكون فاتحة لعالم يستعصي على التحديد والمشروطية.
يخشاك المثقفون أحيانًا وأحيان أخرى يبحث عنك المثقفون أين نجد زياد السالم بين هؤلاء وهؤلاء؟
- تربطني صداقات وعلاقات واسعة مع أغلب المثقفين، غير أنني أضيق ذرعًا بجلساتهم وحواراتهم وطريقتهم في تشكيل المريدين من خلال عقد توازنات معينة، أكره إكسسوارات المثقف وصناعة الحضور عبر بناء منحنى معين من خلال التحشيد ومد الجسور لربط الضفاف المتباعدة وتكوين نجومية زائفة كما يفعل المثقفون عادة، أتساءل دائمًا عن إمكانية ظهور المثقف الجذري في حياتنا الثقافية؟ لكنني لم أعثر عليه، من جهة أخرى أنا أجد ذاتي في الحقول المحتدمة وهذه متعذرة وغير موجودة في الحالة الثقافية العربية، ذهبت قبل سنوات إلى بيروت والتقيت بعض المثقفين هناك، رأيت عبده وازن تحاورنا ولم يدهشني، كان بلا روح، يشبه أفعى الجليد، تلك الأفعى البيضاء التي تبدو في الصقيع للعيان كدمية منسية في حاشية الموت، التقيت آخرين فاختطفت نفسي إلى مهرب اللاعبين، حيث المقاهي القديمة والحانات الغامضة تضج بالأرواح والأجساد الكثيرة في تحولاتها ومغامراتها، دخلت حانة لا يرتادها إلا القتلة وكبار المجرمين، تراجع مرافقي وحذرني من مغبة دخولها لكنني اعتزمت على اقتحامها، أدهشتني تلك الوجوه التي تفصلها عن الجريمة مسافة رصاصة واحدة، أحدهم كان يسيطر بوضع اليد على طاولات الآخرين، حدجني بعينه لكنه قرأ رسالة دموية في عيني فتراجعت نظراته بانكسار، أجد أفقًا غريبًا في هذه الأماكن، قبل سبعة أشهر ذهبت في رحلة ثقافية إلى البحرين، لم أجد أيضًا ضالتي بين مثقفيها، فاقتحمت مقهى خطيرًا في المنامة، يرتاده أبناء البادية من المنطقة الشرقية، أعجبتني طبيعة الحوار البري والتلقائية ولحظات العنف، بين لحظة وأخرى يهشمون القوارير على الأرضية، وظلت المسافة نفسها قائمة بيني وبين غول شرير، قرأت في نظراته رغبة ملحة في الاشتباك معي، لكنه رأى لمعة الموت في عيني فأحجم وانطوى على حدوده، العين أفق للدلالات وهي «مرأة الروح» ومفتاح لمعرفة الكائن وخبراته، بالعين نقدر مدى المجازفة وحجم جنونها، ما أود أن أقوله: إن نمطية المثقف تحيل على الحياة البلاستيكية القاتلة، لم أوجد كي أكون آلة رقمية أو مثقفًا بليدًا يعتقد أنه حامل البشارات ووريث الطبقة الرسولية، تصرف وأفكر وأحلم كما يحلو لي.
تصف نفسك بأنك مصمم متاهات وتعيش بين الأدب والفلسفة وهوايتك الحقيقية النزهة الدائمة في حقول الألغام عرفنا أكثر عن زياد الإنسان وزياد الكاتب؟
- أنا مولع بالتجريب حد الجنون بالرغم من أنه وكما قال فلوبير: «ليس هناك ما يكفي من الأشكال» التجريب ليس على مستوى الإبداع وحسب، وإنما التجريب على المستوى الوجوداني، أعاين انهياراتي على طول مسار الرحلة اللا نهائية، سيرتي لا تبدأ على نحو تصاعدي في العالم، إِذ ألاحظ أن حلم الطفل وفراغاته، تحضر أمامي باستمرار، كأنما المحو واللعب والجنون مؤشرات على حضور الطفل ورفضه لراهنية الأشياء، لست على يقين من شيء لذا لا أعرف من أنا، بيد أنني منتبه لهذا الشتات، وهو يمنحني قوة من وجوه مختلفة: الوجه الأولي للقوة ككائن لا ينفك عن الانهمام بالأشياء، والوجه الآخر للقوة حين تنفصل عن دلالاتها التداولية وترمي صاحبها في أفق الغرابة، ثم الوجه المركب للقوة ويعبر عن الانفصال والخروج بحيث لا أتبين ذاتي إلا بعد العودة، لكنها عودة لتدمير الشبيه الذي كنته يوما، أعود كي ألتقط ما لم استطع التحصل عليه بسبب القانون القسري للواقع، أن مكابداتي مترتبة على طاقة الحلم التي تحرضني على انتزاع الحجب، لكن ليس إلا التيه والقلق، لا يزال البسطامي في طلب نفسه ولن يجدها على الإطلاق، أما الكاتب فهو غير مفارق لهذه الذات المتشظية واللا منتمية، لست صورة متحجرة في متحف، ولا سمكة في حوض زجاجي فقدت لونها جراء الفرجة والحبس، بل رسول الحقل ورفيق المنحدرات.
هاجمت المحللين السياسيين ووصفت أن هيفاء وهبي أشرف من غالبيتهم لأنها تمتلك عيني قطة فاتنة وضحكة ممزوجة بسكر زيادة لماذا هذا الموقف المناهض لهؤلاء الساسة؟
- ليس بوسعك أن تضع قردًا على صراط، هؤلاء أبواق الطغاة، تزدهر تجارتهم مع كل حريق، إنهم نافخو النار وحراسها الحصريون، يقفون في طابور طويل على أبواب السفارات والقنصليات، ثمة أدلة وقرائن تحدد مفاصل الخطاب وطبيعة العلاقة المشبوهة بين اللسان الذي يرطن في السياسة والدولار المغموس بالخيانات وشراء الذمم والولاءات الرخيصة والمتغيرة بحسب العملة ونوعها واستقرارها في السوق، بعض المراكز الثقافية التي تعنى بالنشاط السياسي تحديدًا وتتخذ من دبي مقرًا لها، هناك شبهة حول أصولها المالية ومدى اختراق الاستخبارات الأمريكية لهذه المؤسسات!
هاجمت نجوم الفن السعودي ناصر القصبي وصفته بالكومبارس المشهور الذي لا يختلف عن طلاب الثانوية وفايز المالكي ووصفته بأنه ممثل سامج تقمص شخصية الراحل بكر الشدي فسر لنا هذه المواقف المحتقنة ضد نجوم الفن؟
- ببساطة أقول هناك فارق جذري على مستوى الرؤية الفنية والقيمة والأداء ما بين فايز المالكي أو القصبي نموذجًا وبين فنان حقيقي كإبراهيم الحساوي، طاش ما طاش والأعمال الكوميدية الأخرى لعبت دورًا في تسطيح الذهنية السعودية وكرست كل ما هو رديء ومبتذل تحت لافتة المضحك والمسلي والمتآلف، الفنان لا يقدم عملاً إلا بوصفه منطقة لإقلاق المتلقي بحيث يخلق حالة ارتطام بالمفاجئ والغريب، سئل فنان كوميدي إيطالي عن الهالات السوداء تحت عينيه وعن طبيعيته الكوميدية فأجاب «نشأت الهالات السوداء تحت عيني نتيجة خبرات الحزن والألم» الكوميديا مستوى معقد وصعب يتطلب روحًا ارتطمت بتجارب من مقام خاص ورفيع، ماذا لدى المالكي أو القصبي والحيان...الخ إلا الافتعال الممجوج!
وصفت الوظيفة بإنها تنهك طاقة الإنسان وتخنق الأصوات المتعددة فالموظف حفار قبور لكنه يحفرها في أرض أخرى، كل ساعة يحفر قبرًا ويدفن ميتًا في داخله هل أنت غير راضٍ عن عملك؟
-الوظيفة تحد من طاقتي، إِذ ينخفض مؤشر الغابة في روحي كلما أذعنت للعمل الوظيفي، أن تكون موظفًا هذا يعني أن تكون إنسان الجمهور، تحت الطلب وفي الخدمة دائمًا، أن النهر الذي في داخلي يحرضني أن أكون مروض فراشات، أو منسرحًا على منحدر، أو هائمًا على وجهي في البراري الزرقاء، ساعة الفنان تتعطل إذا كان في ذمة القيد.
من هم أروع الروائيين بعين زياد السالم ومنهم الذين لا يستحقون سطرًا واحدًا لكن الصحافة والإعلام يحتفل بهم قسرًا؟
- هيرمان هيسه، كونديرا، كازنتزاكي، ماركيز، كاواباتا، يوسا...الخ
أنا أقرأ وأتأمل في مختلف مسارات الرواية ومدارسها وعوالمها المتعددة والمتباينة، أما على صعيد الرواية السعودية فأغلب روائيينا لا يستحقون أن تقرأ لهم سطرًا واحدًا، خذ الكاتبة رجاء الصانع أو عبدالعزيز مشري أعمالهم تخترق بسهولة لأنها فاقدة لمكونات السرد والعناصر الجمالية، هذا روائي صنعته (الفزعة والظرف المرضي) بل حتى حزام أبي دهمان كان حزاما باليا ولم يكن حزاما من نار! أيضًا هاني النقشبندي كتب رواية سطحية رميتها، الروائي السعودي بلا أسئلة، ومرد هذا لأنه لا يتمتع بروح فلسفية تبتكر وتشتغل على الأسئلة، لذا ظلت أسئلتهم أسئلة فطرية بائتة، لم يستطيعوا تجاوز غنائية المكان، شارع العطايف ثرية وجارحة في تجربتها لكن تظل مشكلة عبدالله بخيت متجسدة في لغته التقريرية المباشرة، بالرغم من أن شارع العطايف علامة مختلفة في تاريخ الرواية السعودية، تدهشني فيها فيوضات الرغبة جنونها وجموحها.