إن الفلسفة الوجودية التي تعتبر تياراً فلسفياً وظاهرة اجتماعية موسومة بكلمة الوجودية، كما جاء في كتاب المذاهب الوجودية، تعد من التيارات الفلسفية التي نمت في داخلها العديد من المذاهب الفكرية واحتدم الصراع الفكري فيها حول فكرة إثبات وجود الإنسان لدى الفلاسفة الوجوديون من كير كيجارد إلى جان بول سارتر، وسوف أتناول هنا جزءاً من مذاهب هذا التيار الفلسفي في هذا المقال إلا أنني لا أحبذ أن أتخذ الموقف النقدي بقدر ما أود تقديم فكرة مبسطة عن الفكرة المشتركة لتلك الفلسفة بين فلاسفة الوجودية وهي إثبات وجود الإنسان وماهيته، فإثبات وجود الإنسان وماهيته ببساطة شديدة هي الفكرة الصغرى والكبرى التي تنبثق منها الخطوط الأساسية لتلك الفلسفة، فيمكن القول أن الفلسفة الوجودية تتناول كفكرة ظاهرية وجود الإنسان والأشياء من حوله، ثم تنبري النظريات بعد ذلك لتفسر ماهية ذلك الوجود الإنساني كماً وكيفاً، ليختلف حينها المفكرون والفلاسفة على الطريقة التي يثبتون بها هذا الوجود، فمنهم من يقدم الفكر وهو الماهية على أصل الوجود, ويتضح ذلك جلياً في قول ديكارت الشهير: « أنا أفكر.. إذن أنا موجود « ومنهم من يخالف ذلك القول ويرى أن الإنسان وجد دون أن تتحدد ماهيته أي أن الإنسان هو الذي يحدد تلك الماهية وماذا يريد أن يكون وهو بذلك يقدم الوجود وأصل الوجود على الفكر والماهية، ويتبنى سارتر هذا الفكر حيث يقول: « يجب أن نجعل الاختيار للأخلاق مثل صياغة تحفة فنية « وهو بذلك ينفي كل تلك النظريات التي تحاول أن تثبت أن الفكر يأتي قبل الوجود وأن ما يمر به الإنسان ليس إلا نتاج اختياره ولا علاقة للبيئة المحيطة بأي شيء!
وحين نعود إلى أصل تلك الفلسفة فنحاول تحليل تلك الكلمات فنجد أن كلمة الوجودية تصنع خطوطاً عريضة في ذهن الإنسان وتجعله يتجذر في عدة أفكار ليفسر بها ماهية (الوجودية) حتى أن فلاسفة وجوديون اختلفوا حول وجود تلك الكلمة ككلمة تعنوّن مذهبهم الفكري في ذلك التيار الفلسفي، ووفقاً لتصور كير كيجارد يذهب يسبرز إلى أن النظر في الوجود يقتضي إنكاراً للفلسفة باعتبارها مذهباً (1) غير أن هيدجر وأتباعه يصرون على القول بأن الوجودية يجب أن تقتصر على التحليل الوجودي (2) ويرى ريجيس جوليفييه في نقده أن الوجودية ماهي إلا التصميم المشترك على اتخاذ نقطة البداية من تحليل التجربة العينية المعاشة، والهجوم مباشرة – إن صح هذا التعبير – على الإنسان بدلاً من اتخاذه مجرد نقطة للوصول.» (3)
ولأن شعار أفلاطون أشهر فلاسفة اليونان هو: « أعرف نفسك بنفسك « فقد كان يسبرز يعتبر ذلك مجرد آراء وأفكار غير مبنية على تجربة عينية معاشة، لذلك كان يستبعد أن يكون اتصال أفلاطون اتصالاً وجودياً أصيلاً.
ويعود ريجيس جوليفييه ليعرف الفلسفة الوجودية قائلاً: «هي جملة المذاهب التي ترى أن موضوع الفلسفة هو تحليل الوجود العيني ووصفه، من ناحية أن هذا الوجود فعل حرية تتكون بأن تؤكد نفسها، وليس لها منشأ أو أساس سوى هذا التوكيد للذات «.
وإني لأفسر تلك الاختلافات بين كبار ورواد الفلسفة الوجودية إلى أن تلك الفلسفة لا تبدو واضحة المعاني والمدلولات في أول وهلة، فضلاً عن أن تلك الفلسفة تعتمد على الكثير من الآراء والتفسيرات والاتجاهات المتباينة، أي نعم أنها تقوم على فكرة عامة هي الإنسان وتكوينه لجوهر ومعنى حياته إلا أنها أيضاً تحمل اتجاهاً تفكيرياً حراً جداً بدون أي قيود، وهذا ما يؤدي في الغالب إلى اضطراب وتذبذب في نظريات تلك الفلسفة وجعلها لا تأخذ مكانها بشكل واضح وجلي بين مختلف الاتجاهات والعقائد الفلسفية!
وقد ارتبط في ذهن الكثير من الناس أن الفلسفة الوجودية تعني الرغبة في الإحاطة بكل تفسيرات ومدلولات هذا الكون الفسيح وأن الفلاسفة يحاولون إثبات وجود الإنسان بفعله الذي يحدد ماهيته، وهذا في تصور الكثير هو ما يقود إلى الإلحاد بينما أرى العكس في ذلك، حيث اتضح أن الكثير من الدينيين كانوا من المهتمين الذين بحثوا في الفلسفة الوجودية والتي تقسمت إلى عدة أقسام منها قول كير كيجارد: « إن قلق الإنسان يزول بالإيمان بالله عز وجل « وذهب جاك مارتيان إلى القول بأن « الإيمان بالله يحد من الرغبة في الوجود، ويحدُّ من الخوف من العدم «.
وقد ذهب أنيس منصور في كتابه (الوجودية) إلى القول: « الوجودية ليست خطراً على شىء أو على أحد.. والمذاهب الفلسفية أو الأدبية لا يمكن أن تكون خطرا إلا على إنسان عاجز جاهل ، ولا يمكن أن يبقى مذهب من المذاهب إلا إذا كان هناك مبرر لبقائه ، وإلا إذا كان فيه ما يجذب الناس إليه «
وبالعودة إلى وجودية سارتر فإنه كان يرى الوجودية في نوعين من الوجود، حيث يكمن النوع الأول في وجود الأشياء الخارجية إذ يرى أن الشيء الموجود في الخارج هو موجود في ذاته، والنو ع الآخر يرى فيه وجود الأشياء في الشعور وقد أطلق على ذلك الوجود الذهني.
وإن اعترفنا بأن سارتر بغض النظر عن ما جاء به من أفكار قد شكل لنفسه في الفلسفة الوجودية أنموذجاً إلا أن هناك من المفكرين من كان لديهم بعض المآخذ على تلك الفلسفة، حيث يرى البعض دعوة الوجودية إلى الخمول ودفعها إلى اليأس كما أنهم يرون أنها تدعو إلى تقوية الروح الفردية الحالمة والتي تبتعد عن المجتمع ومشاكله الراهنة، واستحالة تحقيق أي انتاج ذات طابع اجتماعي عام. بالإضافة إلى إنكارها للألوهية والقيم المجتمعية وأنها أداة للتفسخ الاجتماعي كما يرون. وحيث جاء في معرض ردهم ودحضهم لكل تلك الأفكار أنه لا يوجد أثر بلا مؤثر وهذا ما يحاول إنكاره أو إثباته أدعياء الوجودية كما يرى منتقدي تلك الفلسفة.
وعن الوجودية في الإسلام فقد ارتبطت الكثير من الأسئلة الوجودية بإجاباتها المباشرة في القرآن الكريم، حيث كان يطرح المفكرون الإسلاميون الكثير من التساؤلات عن الكون والخلق والحياة الدنيا وكانت كل الأسئلة تبدأ بصيغة التساؤل لماذا ؟ بينما تترك الكيفية الموضحة للحقيقة إلى علم الغيب حيث يرى الكثير من المفكرين الإسلاميين أن الكيفية تعتبر أكبر من القدرات العقلية الإنسانية التي يمكن بها أن يتصور الحقيقة، لذلك كانت هناك بعض الأسئلة التي تترك دون إجابات وتشكل إجاباتها هاجساً غير معلن لدى الكثير من المفكرين خوفاً من أن يقودهم ذلك إلى شِراك الإلحاد والعياذ بالله.
* 1 إلى 3 من كتاب المذاهب الوجودية لريجيس جوليفيه وترجمة فؤاد كامل صفحة 6 و 7.
** ** **
عادل بن مبارك الدوسري - الرياض
aaa-am26@hotmail.com
تويتر: @AaaAm26