1 - هذا الإنسان .. وتلك الغابة:
لويليغز جاغر قصة قصيرة بعنوان: البحث عن معنى الحياة، وهي تمضي على هذا النحو: «اعتاد رجل أن يقطع الشجيرات الصغيرة عند طرف الغابة، ويبيعها ليعيش على رَيع متواضع تؤمّنه له.. في أحد الأيام خرج ناسك من قلب الغابة، ونصحه قائلاً: اذهب إلى مكان أعمق داخل الغابة.. ذهب الرجل إلى مكان أعمق، ووجد أشجاراً ضخمة مكّنته من أن يبيع قطع خشب أكبر وأكثر، وبمرور الوقت أصبح ثرياً؛ لكنه ذات يوم استرجع نصيحة الناسك: (اذهب إلى مكان أعمق داخل الغابة..!)، فعزم على المضيّ قدماً وذهب إلى مكان أعمق، وهناك وجد منجم فضة، فاستثمره، وأصبح أكثر ثراء؛ لكنّ كلمات الناسك رنّت في أذنه مرة أخرى: (اذهب إلى مكان أعمق داخل الغابة..!)، حمل فضته وتابع السير في عمق الغابة.. عندما انبلج الفجر وجد نفسه فجأة وقد عاد إلى طرف الغابة.. فحمل فأسه، وعاد يقطع الشجيرات الصغيرة»!
ماذا تعني هذه القصة الرمزية؟.. وما الأبعاد الفلسفية التي تنطوي عليها؟.. هل تعني أنك كلما تعمقتَ أكثر ستصل في النهاية إلى البساطة التي بها ابتدأت؟.. هل أعمق ما في العمق أن يكشف لك ما في البساطة من عمق يتجاوزه ولم تكن تدركه؟.. هل أجمل ما في الحياة هو هذه المكاسب الصغيرة الصغيرة التي كثيراً ما نثني أعطافنا ازوراراً عنها، واستهانةً بها؟..
ها هو ذا طالب المعهد العلمي يتوق بشدة إلى أن يغير مساره المألوف في طرف الغابة؛ لينتقل إلى المركز.. إلى الأعماق كما يظن، فيمضي فور تخرجه يطرق بكلتا يديه أبواب الجامعة المدنية الكبيرة؛ ولكن الأبواب الشاهقة تظل مغلقة في وجهه؛ ليعود مضطراً إلى موئله القديم في طرف الغابة؛ غير أنه لا يلبث أن يكتشف بعد حين كم كان ذلك الطرف القصي عميقاً في بساطته!.. ثم كيف أفضى بخطاه دون أن يحتسب إلى الشواطئ الهادرة والرحلة الموعودة في عمق الخضم!.. هكذا إذن كان مقدّراً لطالب المعهد أن يعود مرة أخرى إلى طرف الغابة، وإلى البساطة.. إلى الشاطئ المتواضع المشرَع أمام الريح؛ لينطلق منه إلى الأعماق الحقيقية.
2 - الثامنة حدي.. الثامنة ضدي:
أدمن هذا الفتى الجاحظي قراءة الكتب، والتفتيش عنها منذ صِباه، وباع من أجل الحصول عليها دراجته الأثيرة، وصادقها طوال عمره فأحيتْه، وكان أن أحيا بهذه الصداقة التفاعلية بينه وبين الكتاب ثقافتنا وعقولنا، وبلّل أرواحنا بمطر الكلام؛ لكنّ عبد الله الغذامي يأبى إلاّ أن يؤكد المعنى العميق لقصة الرجل مع الغابة، فإذا هو يعود بعد هذه الرحلة الممتدة مع الأفكار والمنظِّرين والكتّاب إلى عامة الناس؛ من خلال بوابة: تويتر؛ ليبدأ رحلة أخرى مع الحياة، وحين تتابع حسابه سينتابك إحساس الداخل إلى الحارة الشعبية القديمة؛ يوم كان كبار الحي يفرشون بسطهم أمام دورهم؛ ليتداولوا الأحاديث العابرة، متكئين على عفويتهم قبل أي متّكأ آخر، ومرسلين تعليقاتهم العابرة على أيّ شيء يرونه أمامهم، فوق هذا البساط الشعبي اكتشف الغذامي نفسه من جديد، وكان أن غرّد: «اكتشفتُ أخيراً أني لستُ مثقفاً ولست نخبوياً، فرجعتُ لنفسي وحقيقتي وتحررت من عُقَدي» و:»والله يا بنتي إن حوار العامة أجدى وأنفع من حوار المثقفين، حوارات من يُسمّون بالمثقفين فيها جلافة تسدّ النفس لولا صبرنا وصبرنا»!
وكما يجري تماماً في الحارة الشعبية يتطوع شباب الحي لتذكير العميد بقرب انصرافه إلى نومه المبكِّر بعد أن أعلمهم بموعده الثابت؛ من خلال لازمته التي يكررها في نهاية حصاد اليوم، وهي: الثامنة (أو التاسعة) حدي، وهكذا تتوالى تغريدات متابعي الغذامي بحلول الساعة الثامنة؛ حسب التوقيت الشتوي، أو التاسعة حسب التوقيت الصيفي، ويُعيد الغذامي تغريدها بحسِّه الجماهيري الذكي، فيتفنّن المتابعون في هذا المضمار بأساليب لا تخلو من طرافة وابتكار، فيرسل إليه الأستاذ النهدي مثلاً: «الساعة الآن الغذامي إلا خمس دقائق»، ويبعث فارس الثبيتي: «الثامنة ضدي»، وهي تغريدة لافتة تكاد تلخص أجمل ما في هذا «المركاز» التويتري من تفاعل وارتباط ودود.
3 - الرقص مع الذات:
عند البلاغيين القدامى فنّ عتيق يسمونه: المدح بما يشبه الذم، وإذا تجاوزنا أمثلته المحفوظة فإنه يظل من أكثر أساليب العربية مكراً ودهاء؛ لأنه يُوهمك في البدء بأنه يذمّ، ثم سرعان ما تكتشف أنه مديح من الطراز العالي، بين كتّابنا المعاصرين كان غازي القصيبي - رحمه الله - كثيراً ما يسلك هذا الأسلوب عندما يتحدث عن ذاته وإنجازاته: يُوهمك بأنه يذمّ نفسه ويقلّل من شأنها، بينما تكاد تشاهد كلماته وهي تمدّ لسانها أمامك؛ لتحذّرك من الاغترار بهذا الوهم.. رحمة الله على غازي، فقد كان جديراً بهذا الاعتداد.
هل أقول الآن: إني وجدتُ كاتباً ماكراً آخر يلعب اللعبة ذاتها مع القارئ المسكين تحت عنوان: الهروب من شعرنة الذات، والتبرؤ من الفحولة النسقية للأنا؟.. مرة أخرى سأقول: أنا أعرف أنك تعرف أنني أعرف: أن ما تنفيه من إنجازاتك هو بالضبط ما تريد أن تثبته.. حسناً، أنا معك، وقد فهمتُ مرادك.. ولكن ما أطول رحلة هذه الفكرة!
4 - شوكة في حلق الهواجس:
لماذا يحتفي بعضنا بأي هجوم يُوجَّه للغذامي؛ حتى لو جاء من بعض مدّعي الثقافة خارج الحدود؟ هل ما يستهدفه أولئك المهاجمون: الغذامي وحده، أم يريدون النيْل من ثقافة مجتمعنا بعامة، والتشكيك في إمكاناته؟ وإن كلماتهم لتشهد عليهم؛ إذْ تتقاطر منها العنصرية الإقليمية المقيتة؛ وكأنهم يستكثرون على هذه البلاد أن يظهر فيها قادة للرأي والثقافة على مستوى العالم العربي كله، وخذ مثلاً: سعيد علوش الذي هاجم الغذامي منطلقاً من أن مشروعه في النقد الثقافي ليس سوى حداثة سلفية أرادت الانتقال من المركزية الغربية إلى المركزية التراثية، وفي تحيز إقليمي مكشوف رأى أن هذا سبب ظهور النقد الثقافي في البلدان العربية الهامشية، وليس في بلاد المراكز الثقافية!
يبدو أن عبد الله الغذامي بإنجازاته النقدية المتميزة والمتواصلة أصبح يمثِّل شوكة في حلق فئة منعزلة من «المثقفين» العرب المسكونين بالهاجس الإقليمي والعنصري القديم: بلاد المركز، وبلاد الهامش، والسؤال الموجّه لنا: لماذا الاندفاع نحو تحطيم النماذج الجادة والمتميزة لدينا بسبب اختلاف هنا أو خطأ هناك؟ لماذا نسمح لأعداء النجاح بتدمير نماذجنا الناجحة؟ ألا تدفع هذه الممارسات العبثية الأجيال الشابة إلى التساؤل عن جدوى العلم والثقافة إذا كان هذا هو مآل الجدية والتميز والمثابرة؟ وأنا هنا لا أعني المساءلة الثرية، والنقد العلمي الرصين، وإنما أقصد بعض الكتابات المبنية على الإثارة والتهويش المفتعَل؛ مع الانتفاش بما يقوله الآخرون عن الغذامي.
5 - القصص.. حين تختارنا:
هل نحن الذين نختار القصص التي نرويها أم هي التي تختارنا؟.. هذا سؤال مربِك؛ لأنه ينتمي للدائرة غير المرئية التي تتقاطع فيها اختياراتنا مع أقدارنا، في كتابه: اليد واللسان يتوقف الغذامي عند حادثة حافلة بالمفارقات؛ حينما رغبت جامعة كامبردج في تكريم فيلسوف التفكيك جاك دريدا عبر منحه شهادة الدكتوراه الفخرية؛ إذْ يروي الغذامي كيف تحيّر مسؤولو الجامعة أولاً في تحديد القسم العلمي الذي يحق له أن يمنح الشهادة لدريدا: أهو قسم الفلسفة أم قسم اللغويات؟.. ثم كيف تردد مجلس الجامعة قبل أن يوافق على فكرة التكريم لمفكِّر سخّر جهوده لمهاجمة المركزية المنطقية والمؤسسات المجتمعية المبنية عليها، ومنها: مؤسسة الجامعة ذاتها!..
ألم يحدث شيء مقارب لهذا مع عبد الله الغذامي نفسه؟.. حين ترغب المؤسسة في تكريم أنموذج ثقافي متميز هو شهادة لها من جهة، وشهادة عليها من جهة أخرى؛ فماذا تصنع؟.. جواب هذا السؤال هو ما رأيناه بأعيننا في مصير محاضرة كان من المفترَض أن يُلقيها الغذامي في موئله العلمي القديم: كلية اللغة العربية بجامعة الإمام؛ لكنها أُجهِضت على الرغم من كل المساعي التي بُذِلت لتحقيقها؛ ولا سيما من الصديق الأريب رئيس قسم الأدب الأسبق: الدكتور محمد القسومي.
في مقالته عن: صناعة الجمهور لخّص الغذامي المفارقة الثقافية المدهشة التي تتمخّض عن مثل هذه الأحداث حين قال: «إن الخصوم يصنعون مجدك أكثر من الأصدقاء، وخصوم الفكرة هم من سيُحييها، ويُعمّمها، ويُقوّيها»! وكأن الحرص المتواصل على إسكات الفكرة هو بالضبط ما تحتاجه كي تنتشر أكثر؛ لأن هذا الحرص المبالغ فيه سيلفت نظر الأشخاص الذين تستهدفهم بالذات وعلى وجه الخصوص، وهم الأشخاص المسكونون بالتطلع والأسئلة، وكأن عبد القاهر الجرجاني - رحمه الله - كان ينظر إلينا من وراء القرون حين تحدث عن أسلوب «الحذف»، فقال: «فإنك ترى به ترك الذِّكر أفصحَ من الذِّكر، والصمتَ عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتجدك أنطقَ ما تكون إذا لم تنطق، وأتمَّ ما تكون بياناً إذا لم تُبِنْ، وهذه جملة قد تُنكرها حتى تخبُر، وتدفعها حتى تنظر»!
6 - هل تقرأ كتباً:
أخيراً.. هل يمكن للكلمات أن تعبِّر عما في الحياة من حياة.. ولا سيما إذا كانت تضجّ بالحركة والتوثب والعطاء كما هي حياة عبد الله الغذامي؟ هل نستطيع أن نلخّص هذه الرحلة الثرية بالتجارب والمفاجآت والإنجازات.. والانكسارات أيضاً؟.. وفي هذا الخط الزمني الممتد بين الطفولة والكهولة: أيّ رائحة ما تزال تعبق في الروح؟.. وأي ذكرى محفورة في مخيلة الصبي الذي يأبى أن يشيخ؟
ها هو ذا يتمدد للنوم في الليل البهيم، وفوق سطح المنـزل القديم متطلعاً إلى السماء في خوف وترقب، ثم ها هو وجه جارتهم الخنينية يُطل عليه فجأة، وقد قدمتْ إليه لتبثّ فيه الطمأنينة والأُنس، ولتحكي له إحدى «سباحينها» العجيبة؛ حين كان كل شيء يطير، فيحلق الصبي بعيداً نحو السحاب، ويصافح النسيم المضمّخ بشذى الخنينية، ورائحة ردائها العطِر .
وما بين تفاحة المعرفة المهداة من الشيخ عبد الرحمن السعدي، والخطبة المنتشية بالفتوحات في حضرة الشيخ الجلالي، والإصغاء المتأمل إلى أستاذ المعهد العلمي الشيخ محمد بن عثيمين، وهو يشرح المعنى اللغوي لكلمة: التقليد، وأخيراً السؤال الذي لا يزال يتردد في الأعماق من صديق العمر محمد السليم: هل تقرأ كتباً؟.. وسط هذا كله: أيّ وعي بالهوية كان يتشكّل في ذهن ذلك الفتى اليافع؟ وأيّ شعور رقراق بالانتماء كان يتسرّب إلى روحه ووجدانه؟.. هويّة ما تزال عصية على النسيان والاندثار، وانتماء يأبى التراجع أو التفتت والانكسار.. حتى في أحضان المدينة الساحرة: سان فرانسيسكو حين راح أستاذ النقد المغترِب يجري لاهثاً في شوارع ألباني؛ محاولاً الوصول إلى مكتب البريد قبل إغلاقه؛ ليظفر - في يوم المهلة الأخير - بالطرد الذي يحوي قصائد شاعر الوطن: حمزة شحاتة.
وهو الانتماء الذي كان يؤوب إليه المرة تلو الأخرى؛ حتى في أحلك الظروف حين تكالبت عليه الضغوط داخل الوطن من كل جانب، في الوقت الذي تُقدَّم له العروض الأكاديمية المغرية للهجرة والرحيل، ثم إذا هو يستحيل بعد ذلك إلى إحساس فياض بالحب والتوحّد في لحظة سماوية جمعته مع محمد البنكي، ومنذر عياشي في مسجد الجمعة.. من أجل هذا الانتماء الروحي الرقراق وتلك الهوية الأصيلة المتغلغلة - بصرف النظر عن كل الاختلافات الصغيرة الأخرى - كتبتُ هنا ما كتبت.
تأتي هذه المقالات أيضاً لتكون تعبيراً متواضعاً عن امتنان غامر لكل ما صادفتُه في رحلتي داخل مدائن الغذامي من كرم باذخ في الأفكار العميقة، والآراء المثيرة، والخواطر الملهِمة، وهو الكرم الذي كاد يُغريني أكثر من مرة بأن أُخلف وعدي مع القارئ، وأمدّ هذه السلسلة لتستوعب بقدر أكبر أطايب المائدة وأفانين السمر، وكم في النفس من حديث منقطع، وكم في الذهن من خواطر تتدافع!
تأتي هذه المقالات أخيراً تحية تقدير لهذا الناقد الكبير بعد ثلاثين عاماً من العطاء النقدي والثقافي المتواصل عبر خمسة وعشرين كتاباً؛ منذ كتابه الأول: الخطيئة والتكفير (1985م)، حتى كتابه الأخير: ما بعد الصحوة (2015م)، والبقية ما تزال في الطريق.
لا يفوتني في الختام أن أشكر مدير التحرير للشؤون الثقافية الدكتور إبراهيم التركي على هذه المساحة الممتدة من الحديث، وعلى متابعته المستمرة والدقيقة لهذه المقالات، وعلى أدبه الجمّ الذي طالما غمرني به، وما زلت أتذكر لأبي يزن كيف احتفى بفكرة هذه المقالات حين أبلغته بها، وهو الاحتفاء المنبئ عن تقديره العميق للدكتور عبد الله الغذامي، ومشاعر الود الصادقة التي يُكنّها نحوه، شكراً في البدء والانتهاء لخالق نعمة الكلام، ومنحة الكلمات، فلولاها ما كان للأرواح أن تتناجى، وللعقول أن تحلِّق على إيقاع الأفكار.
د. سامي العجلان - الرياض