كنتُ قد اهتممتُ سابقًا بملتقى مهم انعقدت أيامه قبل عشرات السنوات في مدينة المنستير، وتحديدًا في نوفمبر 1975م، وهو ملتقى الإمام المارزي للفلسفة الإسلامية، الذي صدرتْ عنه مجموعة كتيبات، وطبعتها ونشرتها وزارة الشؤون الثقافية بتونس، واليوم رجعتُ إلى بعض تلك المنشورات، ومنها كتاب الصراع العقائدي في الفلسفة الإسلامية، الذي أشار إلى نقاط بارزة، أهمها عندي ما يلامس عصورنا المتأخرة، حيث ذكر الكتاب أن الفلسفة الإسلامية أمام مهام جديدة حتمية، منها العمل على العناية بفكر الشاب المسلم الذي درس الفلسفة الغربية، فأصبح يقدّر ما حققته المجتمعات الأمريكية والأوروبية والغربية عامة، من إنجازات باهرة في الحقول العلمية والنهضوية المختلفة.. فرغم أنه تقدير مستحق في كثير من جوانبه، إلا أنه من واجب الفلسفة الإسلامية العناية بالشباب المسلم، حتى لا يندفعوا في ذلك التقدير للغرب، فيصل الحال بهم إلى أن يجعلوه قدوة ومثلاً أعلى في كل شيء، خاصة في العقيدة والسلوك والأخلاق، بشكل كامل يطمس هويتهم الإسلامية.
ومن هنا يُفترض أن تقوم الفلسفة الإسلامية بمهمة شاقة، وهي أن توجد للمسلمين مذهبًا أو مذاهب حديثة مترابطة مقنعة، تُبقي آراءهم حية بين الناس، ومتطورة عبر الزمن، بصورة عصرية جميلة قادرة على المنافسة في الدخول المنطقي إلى العقول، وإشباع الحاجات الفكرية، كالإجابة عن التساؤلات القوية المتصاعدة من الأجيال الجديدة في مجتمعاتنا مثلاً؛ لأن هذه الحياة وهذا التطور هما وهما فقط القادران على إبقاء هويتنا وشخصيتنا كمجتمعات عربية مسلمة، فقد تعلّمنا أن أي مذهب أو منهج يفقد المرونة والقدرة على النظرة الإنسانية العقلانية المتسامحة المتعايشة الشاملة، والقدرة على مواجهة الظروف القاسية والتطورات والطوارئ الصعبة، سينتهي يومًا مهما طال الوقت إلى التلاشي والفناء والاندثار والزوال.
وأنا في الحقيقة أحببتُ بعض كلامهم السابق، وأتفق معهم فيه، أي في أننا بحاجة ماسة إلى (تجديد الإسلام)، وأن هذه الحاجة لا يمكن تحقيقها إلا بفلسفة إسلامية تحدّث وتطوّر كثيرًا في مجالات عدّة، عقدية وأخلاقية ومعاملاتية وتعليمية وتربوية، ولا تلتفتُ في الوقت نفسه إلى معارضات المتطرفين والمتقوقعين في جحورهم المظلمة، الذين يريدون من المسلم دائمًا أن يعود إلى الخلف، وأن يبتعد عن مسايرة العصر، وأن يكون قاسيًا صلباً متحجرًا ذبّاحًا نحّارًا مفجرًا مدمرًا معاديًا لكل من يختلف معه من البشر؛ لأن الالتفات لآراء هؤلاء يعني الانزواء عن العالم والتوقف والجمود، والتوقف والجمود يعني الموت البطيء في نظري، للفكر الإسلامي الذي سيعجز يومًا عن التأثير إن لم يسعفه المؤهلون للفلسفة من أبنائه، بضخ دماء جديدة تطيل عمره وتجعله قادرًا على رفع رأسه إذا وقف بين الرؤوس الفكرية الأخرى على أرض الإنسانية الحديثة.
فمن الناحية السياسية تناول كثير من المفكرين العرب مشكلة عجز العرب والمسلمين عن توحيد صفوفهم مثلاً، ومن أجمل الآراء التي أؤمن بها الرأي الذي يقول إن السبب هو عجزهم عن إيجاد مذهب واحد مشترك يخضعون له ويقنعهم ويلملم شتاتهم، فغالب المدارس والأحزاب السياسية القوية في العالم قديمًا وحديثاً، قامتْ وتأسستْ وثبتتْ وعاشتْ واستمرَّتْ، بفضل تمسكها بمذاهب معينة تدافع عنها وتنافح من أجلها ومن أجل بقائها.
إن المجتمعات المسلمة عامة، والعربية منها خاصة، بحاجة ماسة في نظري إلى مذهب فلسفي إسلامي حديث شامل يربطهم ببعضهم، وينقذ هويتنا وشخصيتنا كمجتمعات، وبحاجة أيضًا قبل ذلك بلا شك إلى تكوين نظرة كلية شاملة عن الفلسفة الإسلامية بشكل عام، بحثاً عن الأخطاء لإزالتها أو إصلاح ما يقبل الإصلاح منها.
إن الفلسفة الإسلامية مقيّدة -كما هو معلوم للجميع- فهي تضع لها (مرجعية محددة) لا تخرج عنها أبدًا، ولهذه المرجعية وجهان أو مصدران أو ناحيتان أساسيتان، هما: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة, فهما الملهمان الجليلان للفلسفة وغير الفلسفة من النواحي المختلفة للحضارة الإسلامية.
لا إله إلا الله محمد رسول الله، جملة جامعة لأساسي العقيدة الإسلامية، وبهما يتحقق شرط الإسلام الأكبر, بترسيخ الألوهية والتوحيد المطلق لله وحده من جهة، والإيمان بنبوة رسوله محمد عليه السلام من ناحية ثانية.
ثم ينبني على تلك الجملة كل شيء؛ لأن الإيمان بها يستلزم بالضرورة الإيمان والانقياد لكل ما قاله الله ورسوله في القرآن والسنة، والحقيقة أن المتأمل المنصف لنصوص الكتاب والسنة، سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، سيجد أن كلام الله ورسوله، يحتوي على (منهج كامل للحياة) بكل ما فيها.
فشمولية هذه الفلسفة لكل نواحي حياة البشر متقنة وعجيبة، وقد أكد هذا القرآن الكريم في آية المائدة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، ونجد في الآية الكريمة الأخرى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}.
ثمة جملة تتكرر على سمعي في خطب الجمعة وغيرها منذ أن كنتُ صغيرًا، وهي أنهم حين يتكلمون عن النبي محمد عليه السلام، يقولون: (ما ترك خيرًا إلا دلّنا عليه، ولا شرًا إلا حذرنا منه)، وأعتقد أن هذه المقولة تدل وتؤكد ما ذكرته من شمولية الإسلام وكماله في نظر المسلمين، وأحياناً في نظر كثير من غير المسلمين أيضًا. وهذا منطقي ويثبته الواقع، فإذا تأملنا العبادات والطقوس والشعائر والتعاليم بأشكالها وألوانها، البدنية والروحية، نجد أن الإسلام أشبع كثيرًا من حاجات الإنسان إشباعًا كاملاً في ربطه بخالقه وربه.
وإذا سلطنا الضوء على المجتمع، نجد الإسلام قد وضع أحكامًا دقيقة شاملة للأسرة منذ نشأتها، أي من بداية عقد الزواج إلى أن يموت أحد الزوجين مثلاً، وما يكون لأسرته بعد موته من أحكام وقوانين في الميراث وغيره.. وبين (عقد الزواج) و(أحكام الميت) نجد عددًا لا ينتهي من الأحكام والتعاليم والنصوص التي تشمل كلَّ تفاصيل الأسرة والمجتمع بشكل عام.. ففي السياسة مثلاً نجد أن الإسلام وضع الأسس للدولة الإسلامية وعلاقاتها الخارجية مع غيرها، والأسس للعلاقة الداخلية بين الحاكم والشعب من ناحية، والعلاقة بين عامة الناس فيما بينهم من ناحية ثانية..
بالإضافة إلى أن الإسلام من الناحية (الإدارية) احتوى مجموعة كبيرة من القوانين والتشريعات المسؤولة عن تدبير الشؤون الإدارية لجميع مرافق الدولة والمجتمع بشكل شامل دقيق فيه جمال.
كما نجد في القضاء الإسلامي شمولية أخرى أيضاً، على أسس الحكم بين الناس عند التنازع والاعتداء.. فقد اشتملتْ أحكامُ القضاء في القرآن والسنة على نصوصٍ كثيرة شاملة، يرى المسلمون أنها أكثر عدلاً وإنصافًا من كل التشريعات الأخرى.
أما من الناحية الاقتصادية، فالمال في الإسلام من الضروريات الخمس عند كل إنسان، والتي يجب على الحاكم المحافظة عليها وحمايتها عند كل فرد في المجتمع من الاعتداء أو الإساءة. والقرآن والسنة مليئان بالنصوص التي تتحدث عن المال ودوره في الحياة وأحكام البيع والشراء.. الخ.
وبالإضافة إلى حماية الأموال، نجد أن الإسلام اهتم اهتمامًا صارما جدًا، بحفظ بقية تلك الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، واعتبر التعدّي عليها جناية وجريمة وضع لها أشد العقوبات.
ولم يتوقف الإسلام عند الحياة الدنيا، بل عمل بقوة على وضع (مَسَدّاتٍ عقلية) لكثير من ثقوب (القلق الوجودي) أي أنه أوجد إجابات يراها المسلمون شافية في موضوع الحياة الأخرى والموت والبعث والحساب، وكيف جئنا إلى الحياة، وما الحكمة من خلقنا، وإلى أين سنمضي بعد هذه الدنيا؟ وما شابه ذلك من تساؤلات واستفهامات.. فالإسلام قد تناول الدنيا والآخرة في آن واحد بترابط كامل لافت للنظر.
ولكن الإشكال الكبير في نظري بعد أن أوردتُ كلَّ ما سبق، هو في اختلاف المسلمين في فهم الدين، وهو ما كتبتُ سابقاً مقالات عدّة حوله، أبرزها مثلاً مقال عنوانه: ما هو الفهم الصحيح للدين؟.
إن أكبر المعضلات في ظني هي الانقسامات التي تتحوّل إلى صراعات وحروب ومواجهات لا إنسانية بين المسلمين أنفسهم، بصورة دموية لا أخلاقية قلّما نجد لها نظيرًا عند بقية المؤمنين بالأديان الأخرى في هذا العصر تحديدًا - أعني الانقسامات والاختلافات في فهم ما ورد في نصوص الكتاب والسنة، فمن النادر أن نجد مسألة يتفق كلُّ المسلمين على فهم محدد واضح لها.
وهذه الاختلافات بكثرتها وحدّتها، هي التي جعلتهم يقتلون بعضهم وينحرون بعضهم ويحرقون بعضهم في كل مكان قديمًا وحديثاً، وفي هذه المشاهد البشعة الشنيعة التي نراها في هذا الزمن ما يكفي عن كثير من الكلام، فالجميع يزعم أنه يحب الله ورسوله، ويمثل الله ورسوله، ولذلك يقتل أخاه طلبًا في رضا الله والجنة؛ لأن أخاه يفهم أو يؤمن بالدين بشكل مختلف عن إيمانه وفهمه.
ومن هذه الجرائم البشعة التي أصبح كثير من المسلمين يرتكبونها في حق بعضهم، وفي حق غيرهم من الناس الأبرياء والمدنيين المسالمين.. من هذه الجرائم مثلاً تبرز الحاجة إلى الاهتمام بالبحث عن فلسفة إسلامية حديثة، وفلاسفة مسلمين جدد، قادرين على التأثير الإيجابي، والسيطرة على عقول الناس، وخاصة الشباب وصغار السن، حتى لا تستمر الأمور في التصاعد، فتصل إلى درجة لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
إن الإسلام -في نظري- لا يحتاج في هذا العصر إلى كثرة الوعاظ والدعاة، بل يحتاج قبل ذلك إلى مفكرين أكفاء، قادرين على ردع الصدع ورقع الخرق الذي اتسع جدًا في ثوب الفكر الإسلامي في هذا الزمن، إلى درجة ظهر معها الرهاب الإسلامي، أو إسلاموفوبيا ((Islamophobia الذي يعني الخوف من الإسلام باعتباره دينًا إرهابيًا، وكراهية المسلمين باعتبارهم أعداء للإنسانية والحياة، وهو ما يسميه البعض في الغرب مثلاً «شيطنة المسلمين».
إن الإسلام في ظل ظروفنا الراهنة بحاجة إلى فلاسفة ومفكرين حقيقيين من أبنائه، يبحثون عن حلول جادة لهذه الكوارث الكبرى التي تزيد يومًا بعد يوم، ويعملون بقوة وصدق على تخليصه من كل ما يحيط به من مشوّهات ومكدِّرات ومخيفات جعلتْ كثيرًا من غير المسلمين مثلاً يفكرون ألف مرة ومرة قبل الاقتراب من هذا الدين، فضلاً عن التفكير في اعتناقه والدخول فيه.
وائل القاسم - الرياض