«إن المعرفة تثقل.. والحكمة تحزن.. أما الحقيقة فلا علاقة لها بالمعرفة والحكمة, إنها خلفهما. وإن بعض يقيننا يقف خلف مملكة البراهين».
هنري ميللر
وكلما أوغلنا بعيداً في ما ليس إنسانياً ولا بشرياً ذهبنا بعيداً في منافي الروح وحيث يتلقفنا العدم والضياع، وحيث النفس تعاند وتقترف عصيانها ويقينها الخاص مخلفة (نحن) في العزلة والاغتراب موغلين في التطرف نحو كل ما هو متخيل متخذين من الحلم واللغة المنفى والمقام.
مخلوقون نحن من الطين ومن الماء والهواء ومن حلم أعوج، والذين يحاولون الذهاب بنا بعيداً نحو ما ليس يقينياً لا يفعلون بنا سوى الشطط، ويكلفوننا ما ليس في الوسع، ولا هم أبقونا في إنسانيتنا وبشريتنا، ولا هم رفعونا نحو مصافي الملائكة، وذلك ليس مكاننا، ولا نريد وحيث ننتهي في الأغلب الغرباء.
ولأن الملاذات شحيحة وغير آمنة لنحتمي بها من هذا الشطط، ولأن الحنين غادِر، والذكرى فخ من الندم, تبقى الكتابة وحدها أولى مراتب العزاء، وما من كاتب إلا وهو يكتب من خيبة ما، ولا مغن إلا ويغني من الوجع.
ولقد كنا ذات يوم نحتمي بالرقص بالشعر والأغاني وبفضاء الله الذي يتسع لكل ما خلق الله غير أن هذا الفضاء يغدو حرجِاً كل يوم.. مستلباً كل يوم ومحاصراً أكثر كل يوم، ولم يعد لنا من ملاذ سوى الذهاب نحو موتنا كل يوم.
وهذا ما نفعل الآن.. وها نحن كل يوم نموت.
ولكأنه (الموت) ليس كافياً ليتخطف منا قوافل الشهداء المقيمين على جبين حدودنا، ولا أولئك الراكضين في الطرقات نحو اللا شيء، ولا المتنزهين على أسرّة المشافي حيث يفشل الدواء.. الموت اليوم يزف قوافل الشهداء على عتبات المساجد وحيث ما زرعتهم المصادفات، ولكأن بيوت الله ما عادت بيوتاً لله ولا الذهاب للصلوات تقرباً إليه, لقد أوغلنا بعيداً، وتوحشنا منذ أن حاولنا أن نكون الأوصياء على الأرض لا المقيمين عليها ككل مخلوقات الله.. واليوم نحن نحتسي جرار الدماء.. وطويلاً سنفعل؛ لأننا كلنا صمتنا حين كان الكلام فرض عين، ولأننا عجزنا عن الابتهاج بالحياة، وفضلنا التصاهر مع الموت، هذا الذي كان حاضراً.
والآن هل يجب أن أستدعي أو أتذكر أننا كلنا ذات يوم كنا ذلك الطفل البريء الذي رأى الملك عارياً، وصرخنا بالحقيقة، وكان مصيرنا النفي حيث نحيا الآن وحيث الأشجار بلا ظلال وحيث لا تفعل العصافير كل يوم شيئاً عدا تثبيت أجنحتها بغراء فاخر وتقديم التماس لأخذ حصتها الهزيلة من النشيد.
واليوم انقسمنا على الماء وعلى النخيل وعلى السماء التي كل يدعي أنها سماؤه وحده مستدعين تأريخ القبائل وتأريخ الألف عام الرابض في بطون الكتب والمجد اليوم للموت، ولا نولد تعساء حين نولد، نحن نذهب إلى هناك بكامل اليقين.
وهنا سنبقى تاركين الأشياء التي تدفئ قلوبنا نهباً للفقد مبتهجين بعودة هابيل للأرض؛ ليكتمل المشهد، وحتى المنافي التي كنا بها نلوذ لم تعد تحمي.
وليتنا استنفدنا الممكن من الحياة قبل أن نستعجل الذهاب لما لن يفر منا.
ومباركون من ينسون ويصفحون ومباركون أكثر من يمنحون الغفران.
ومباركون الذين لم يولدوا بعد فقد يجيئون في زمن أخضر، ووحدهم من سيستغفر لنا، أما نحن فلا وقت لدينا وكلنا في فرار.
والحمد لله من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عمرو العامري - جدة