لازلت أذكر رواية اسم الوردة الرائعة لأمبرتو إيكو، حيث تدور حول مخطوط سري محفوظ في مكتبة الدير، وهو من علوم المسلمين في الكيمياء وعلم الحيل الذي وصل إلى الغرب في القرون الوسطى وكان يظنونه نوعا من السحر والشعوذة .. إن تلك الرواية وهي تدافع عن العرب وعن دورة الحضارة العلمية تظهر في الوقت نفسه كيف تقوم الإيديولوجيا بتجهيل الناس...
ما يلفت النظر حقاً هو أهمية تتبع حركة العلم كظاهرة سيسولوجية، وكيف يتم التعاطي مع تلك الحركة، وكيف يقاس الوعي العلمي والوعي الحضاري والوعي الأخلاقي والوعي الحقوقي الذي عادة ما يقرن بمقدار انتشار العلم أو الأمية في المجتمع .
في رواية اسم الوردة يتم احتكار العلم لطائفة الإكليروس والرهبان ويعيش بقية المجتمع في غياهب الجهل، ولذا غرقت أوروبا في القرون الوسطى في ظلام دامس طامس لم تتخلص منه إلا بحركة تنويرية أسهم فيها علماء وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أسر حاكمة ربما كانت تقلد الأسر الحاكمة الإسلامية في تشجيعها على التأليف و كانت معظم تلك الأسر تتوافر على علماء حقيقين بين أفرادها، ومثل ذلك الوزراء والقواد الذين كانوا على حظ كبير من العلم ، فازدهرت المعرفة وازدهر العلم.. وكان ثمة نوع من التسامح الفكري وإن كان محدودا ويتم انتهاكه بين فترة وأخرى، فما حدث في العالم الإسلامي حدث مثله في أوروبا فيما بعد في عصر التنوير أو في إرهاصات عصر التنوير حتى نكون أكثر دقة.. أي كان هنالك سبق زمني حضاري إسلامي في حركة العلم ودوران عجلاتها..
ولكن ما الذي حدث لتتوقف حركة العلم في العالم الإسلامي، توقفا تاماً أو شبه تام، ويستمر دورانها في عصر التنوير وما بعده من عصور في الغرب ليقفز قفزة علمية لا مثيل لها على مدار تأريخ البشرية المكتوب الممتد لأكثر من خمسة الآف سنة .
لازلت أذكر أحد الأكاديمين البريطانيين هو يسألني: ولكن لماذا توقف العلم لديكم بعد ساعة هارون الرشيد التي أهداها لشارلمان... سؤال كبير جدا أظن ملخص إجابته هي عنوان المقال..
لقد حرر الغرب حركة العلم من النخبوية فنشره أفقيا، وفك قيده من الاحتكار وسهل الوصول إليه لكل الناس، وجعلهم سواسية كأسنان المشط لا فرق بينهم إلا في الجهد والعبقرية الفردية التي يمنحها الله لبعض من الناس دون آخرين، وهنا انطلق الإبداع كعمود من نور اخترق الآفاق وأنار الأرجاء وأزاح عن العالم ليس عن أوروبا فحسب طبقات متعددة من الجهل العميق والجهل المركب و مركب الجهل..
أما ما الذي حدث تحديدا في العالم الإسلامي فهو أولا ترسيخ نخبوية العلم فقد ظل انتشار العلم يتم بطريقة رأسية وكان مقصورا على نسبة ضئيلة محدودة جدا من المجتمع فيما يغط باقي المجتمع في جهل عميق أي إن الأمية ظلت أكثر فشوا في العالم الإسلامي بل كلما تقدم الزمن ازدادت الأمية حتى بلغت أوجها في العصر العثماني، وبدلا من نشر التعليم أفقيا كان هنالك حرص على نخبوية العلم في أسر محددة لها علاقة بالطبقات الحاكمة تقدم ما سماه جاك بيرك بالعلم الجاهز الذي يؤدي في نظري إلى تراكم طبقات من الجهل الكثيف، ليس هذا فحسب أي قصر انتشار العلم في مسار ضيق رأسي نخبوي لا يؤثر في حل مشكلات المجتمع ولا في نمو الوعي لديه بل تم احتكار حقيقي لحركة العلم ولطريقة توزيعه في أسر معينة أو في طائفة معينة وحرمان بقية الناس من الموارد العلمية، وقد قامت هذه الأسر أو الطوائف بالحفاظ على مكتسبات معينة تحققت لها من وراء وظيفة التعليم ووظيفة أداء بعض الطقوس الدينية للناس لذا حرصت كل الحرص على إيقاف حركة العلم وتجميدها عند مستوى العلم الجاهز الموظف الذي يناسب بقاءها متحكمة في وعي الناس، وتم تشجيع الناس عن الانصراف عن العلم إلى المهن الأخرى وتعليمهم فقط الحد الأدنى من المعلومات الدينية.. .
أي أن ما حدث هو توقيف متعمد لحركة العلم رأسيا وتجميده وظيفيا على تعليم الفروض الدينية، و لا يستطيع الإنسان المنصف إلا أن يقول لقد توقفت حركة العلم في العالم الإسلامي لقرون طويلة جداً، وحتى الحركات التي هدفت إلى الإصلاح كانت في الغالب حركات إيديولوجية تهتم باستبدال قالب إيديولوجي بقالب آخر.. دون تغيير في نظام حركة العلم النخبوي المحتكر الجاهز
وحينما بدأ (النهضة) الحديثة عقب الاتصال بالغرب واتضحت المسافة الهائلة بين العالم الإسلامي ذي الحركة العلمية المتوقفة، والغرب ذي القفزة العلمية الهائلة، بدأت تتغير وتيرة حركة العلم، لفك رأسيته ونخبويته ونشره أفقيا، وفك احتكاره ونشره للجميع بطرق متعددة وبأنواعه المختلفة، ولكن تلك الحركة كانت تقليدا سطحياً لحركة العلم في أوروبا وهي إن نشرت القراءة والكتابة على المستوى الأفقي ونشرت أنواع العلوم والمعارف ووصل البعض إلى أعلى الشهادات العلمية بل حصلوا عليها من الغرب.. إلا أن العلم لا ينتج كما ينتج في الغرب ولا يتحرك كما يتحرك في الغرب مازال واقفا للأسف.. ومازال المجتمع يقرأ ويكتب وكأنه لا يقرأ ولا يكتب والسبب أن الحركة العلمية لما تزل في العمق على الإيقاع العميق نفسه (علم نخبوي يتاح في طريقة محتكرة لتوظيفه ضمن مكتسبات فئوية في نهاية الأمر)، ولذا لا تعجب حين ترى على سبيل المثال طبيياً في أرقى بلد في العالم يتخرج ويأتي من يمدحه كمن يمدح أعرابيا في خيمة فالزمن العلمي متوقف والوعي متوقف ما يتحرك فقط هو ما يضاد العلم وما يضاد الوعي، ولذا ليس ثمة إنتاج علمي حقيقي في العالم الإسلامي لا على المستوى التراكمي ولا على المستوى النوعي وإذا كان فيبر كان يلح على أن الهدف من العلم ليس هو إنتاج مذاهب بل أن يكون في الأساس علما حقا بعيدا عن كل نزاعات مذهبية، فإن العلم صار يخدم وينتج مذاهب ولا ينتج علماً وقد نشأت هذه الحالة عن السببيتين التي أشار إليهما فيبر وهما السببية التأريخية التي تحدد الظروف وراء توقف حركة العلم والسببية السسيولوجية التي تربط بين العلاقة بين الظواهر مما أدى إلى تكرار الحركة وتكرار الزمن في أشكال مختلفة ولكنها في الحقيقة العميقة شكل واحد لا حركة فيه غير التكرار، بل لقد استمر نسق ( المريد والشيخ) واستمرت صورة الفقيه والملا وتحولت حتى بعض الأسر القديمة المحتكرة للعلم الجاهز الوظيفي إلى إدارة العلم بطريقة أو بأخرى أو ظهرت فئات جديدة تمارس في إدارة العمل والمعرفة والوعي ما تمارسه تلك الأسر القديمة واستمرت النخبوية واستمرت الحالة الاحتكارية حتى في وجود التقنية وثورة المعلوماتية التي صارت تستهدف الجماهير وتصنعها كما يقول فرانسو بيرو أي أن التقنية الحديثة رغم فائدتها التي تقدمها إلى الإنسانية في تغيير أوضاعها إلى الأفضل لم تغير كثيرا في حالة العلم وحركته في العالم الإسلاي.
هنا يجب على العلم الحقيقي أن يفتش عن وظيفته الأولى وهي بحسب إميل دور كايم يجب ألا تنحصر في دراسة السلوك الإنساني في أبعاده المختلفة من أجل إبراز ما هو كائن بدل الحديث عما ينبغي أن يكون.. ولن يتم ذلك من غير تحليل خطابي يعتمد الجينالوجيا لتفكيك أنظمة وسلطة الخطابات المعتبرة علمية في المجتمع من الداخل ومن غير الاستمرار في متابعتها ومتابعة حركتها بنيويا وسيسولوجياً من الخارج .
(ملحوظة بعض المعلومات في هذا المقال مقتبسة من حسن المجاهيد 2012)
د. جمعان عبدالكريم - الباحة