قبل أربعين عاماً تأسس مكتب التربية العربي لدول الخليج، وتعاقب على إدارته خمسة من أهم التربويين وأعرقهم في المجال، وقدم طيلة هذه السنوات أكثر من ألف إصدار، تتباهى بها المكتبة العربية التربوية، تتوزع بين البحث الأصيل والمترجم والدراسات الميدانية، ويضاف إلى ذلك مجلة ربع سنوية، ومجلة تحمل اسم «جسور» لنشر البرامج والفعاليات والمستجدات.
المكتب في مساره قدم ندوات مهمة وورش عمل، وهو بكل هذا يؤكد سمو الأهداف التي من أجلها أُنشئ، ووعي مسؤوليه بأهدافه لجعل الساحة التربوية الخليجية على قدر من النمو والتفرد، تتفق مع تطلعات بناء الإنسان في ظل التحديات التي لا تخف ولا تهدأ. ومن يراجع تاريخ المكتب يتأكد أن وراء هذا العمل إرادة قوية من دول المجلس وسعياً حثيثاً لجعل التربية أول الرهانات، واستباق التحديات التي إذا لم تتنبه إليها قطاعات التربية صنعت فجوات لا حدود لها، وبثت من المآسي ما نلمس بعضها الآن من ترهيب، ونظر أحادي، واستبداد إقصائي يصنع الإرهاب، ويجفف منابع الفن والحياة.
قلت هذا وأنا أتابع نشاطات المكتب، وأفرح بإصداراته، وأسعى إليها، وأرتاد صفحته عبر الإنترنت، وأقرأ نشرته التي تصلني عبر البريد الإلكتروني، لكنني بكل دراية وأسف أقول: إن نسبة كبرى ممن يجب على المكتب الوصول إليهم لا يعلمون عنه شيئاً، والمكتبات المحلية تخلو من إصداراته، ونقاط البيع تستغرب السؤال عن بعضها، والموزعين الذين يحتفلون بإصدارات الدول المجاورة لم يسمعوا به من قبل، وهكذا تذهب كثير من الجهود والأموال، وتضيع كثير من الأهداف في طريق الوصول إلى مستهدف لم تُبذل من أجله الجهود المتكاملة.
الظريف أن المكتب أعلن استراتيجيته الجديدة قبل عام، وعنها فيلم وثائقي عبر «اليوتيوب» شاهده خمسة وثلاثون مهتماً!! وقدم ميثاق أخلاقيات التعليم منذ سنوات فلم يعلم عنه الميدان شيئاً، وتخلو المكتبات المدرسية، أو ما يسمى «مراكز مصادر التعلم»، من آثار المكتب وإصداراته، ولا نلحظ مراجعات لإصداراته في الصحافة المحلية والخليجية؛ وهذا خلل مؤسف، يقوده واحد من أهم صانعي وناشري الكتاب التربوي في العالم العربي؛ فالترويج عنصر مهم في حلقات الإنتاج وتحقيق الأثر لمؤسسة غير ربحية، أهدافها متصلة بأهداف وزارات التربية والتعليم في دول المجلس، والتعليم فيها يواجه تحديات غير منقطعة على أصعدة المنهج، والمقررات، واختيار المعلم وتأهيله وتدريبه، وبناء المؤسسات التربوية، والوعي بالتقاطعات مع المؤسسات التي اقتحمت مسار بناء الفرد مثل الإعلام وثورة التواصل الاجتماعي.. والمكتب مظلة جماعية لرسم السياسات والتشجيع على الدراسات الميدانية، وعقد الندوات وبرامج التدريب، ونقل التجارب، وفتح الآفاق مع المؤسسات وبيوت الخبرة الدولية.
أظن من السهل عليه أداء ذلك فهو ينجح سنوياً في الترويج لجائزته البحثية، ويغدق عليها، ثم يعود إلى عاداته الأثيرة مستعيراً بعض تقاليد «مراكز النشر العلمي» في الجامعات فهي تمتلك الأموال ولديها الباحثون، وبعضها يمتلك مطابع عالية الجودة، لكن أثرها وبرامجها ودراساتها لا تتجاوز أسوار الجامعات.
رحم الله الدكتور محمد بن أحمد الرشيد الذي أدار المكتب سنوات عدة فكان في عهده نموذجاً للعمل الجاد والمثابر والقريب من الميدان، ومن أهم أعماله ندوة «ماذا يريد التربويون من الإعلاميين؟ وماذا يريد الإعلاميون من التربويين؟»، وقد خرجت أبحاث الندوة في ثلاثة مجلدات، ظلت إلى اليوم مرجعاً مهماً في العلاقة الملتبسة بين المؤسستين، وهي تتفاقم اليوم، وتحتاج إلى ندوات ومجلدات ونوايا ووعي بما يجب وكيف ينفذ. وأظن المكتب قادراً على أداء أكثر مما نتوقع منه وأجمل، ولن نفقد الأمل!
محمد المنقري - جدة