عبدالكريم السيد فلسطيني عمل في الطب وعشق الفن وأخلص له
على مدى عشر سنوات تشرفت فيها بدعوات من مؤسسة الشارقة للفنون، تعرفت فيها على العديد من الإنجازات الثقافية والفنية المتعلقة بالفنون البصرية في إمارة الشارقة وما حققه هذا الحضور من جذب وتعريف بثقافتنا العربية والإسلامية، وصولا إلى الخليجية وثقافة وفنون الإمارات من خلال الشارقة.
هذا الزخم من العطاء الذي لا ينقطع جمعني أيضا بأناس قد يغيبون عن الذاكرة في لحظات الفعل والتفاعل والعمل الدءوب لكنهم مؤثرون، تعيدهم أدوارهم التي تكمل بعضها البعض إلى الذاكرة، رجال نذروا أنفسهم لما ائتمنوا عليه ردا للجميل وحبا في المكان وفي التخصص.
وقبل أيام ودعت الشارقة الفنان الدكتور عبدالكريم السيد فلسطيني الجنسية والمنشأ، الذي حمل وطنه معه في قلبه وسكنا معا في الإمارات المتحدة (الشارقة) تحديدا أرض المحبة وحضن كل مبدع أو فاقد لوطن، فمن يحط قدمه على أرض الإمارات يشعر وكأنه في وطنه الأصل، ولم تكتفِ الشارقة بأن تكون رحما وحضنا للإبداع والمبدعين فقط، بل منحت من سكن بها الانتماء إلى منبع حضاري ارتقى بها وبأهلها محاطين بالأمن والأمان وفرص العيش وصولا إلى الإبداع، فكان للدكتور عبدالكريم هذه البيئة الطيبة المساعدة لاستفزاز مواهب الإنسان وإبرازها على الواقع وإثرائها.
رجل المهام والقلم
واللون والابتسامة
عرفته عن قرب وعملنا معا وتشرفت بالمشاركة في عدد من الندوات التي له فيها دور أو مشاركة بورقة عمل، كنت أتابع نشاطه وهو في عافيته، وعندما التقيته بعد فترة وكان قد مرّت به وعكة تسببت له بداء الرعاش فلم يعد يستطيع إمساك كأس الشاي بسهولة، ورغم ذلك عمل رغم كبر سنه الذي بلغ السبعين عاما أفضل ممن هم في عمر الشباب.
لا تفارق وجهه الابتسامة ولم أسمع منه تذمرا أو شكوى، يعمل في مجاله الإداري ويتواصل مع المدعوين في مختلف الدول المرشحين لتلك الندوات، وعند اللقاء بهم لا تشعر أنه فلسطيني إلا من لهجته الأصيلة، يلجأ إلى مرسمه كلما لاح في مخيلته وحي لإنجاز لوحة، أو كتابة موضوع يرغب في نشره عن الفن التشكيلي، فهو يجمع قدرات متعددة، إضافة إلى قدراته الإدارية، فهو فنان تشكيلي وباحث وناقد، ومدير متميز للندوات.
له العديد من الكتابات النقدية المهمة
له العديد من الكتابات النقدية المهمة، آخرها وأبرزها كتابه «رواد التشكيل في دولة الإمارات العربية المتحدة»، الذي صدر في عام 2012 عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة.
أقام خمسة عشر معرضا في الإمارات وخارجها، وعمل في إدارة الفنون بدائرة الثقافة والإعلام في مجال البحث والدراسات، عمل في دورات بينالي الشارقة الخمس، الأولى عضوا في اللجنة الفكرية والندوة الدولية، ومنسق العام لجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي ومهرجان الفنون الإسلامية، وعضواً مؤسساً في جماعة «الجدار» الفنية، شهد ولادة عضو مؤسس لجمعية الإمارات للفنون التشكيلية، وشارك في معظم أنشطتها الفنية. أقام في عام 1993 معرضاً فنياً بالألوان المائية بعنوان (رسالة حب إلى الشارقة).
قدم دورات لتقنيات الألوان المائية ومحاضرات في التذوّق الفني وتاريخ الفن في معهد الشارقة للفنون، وقام بإرشاد و توجيه الفنانين الشباب، واعترافاً بما قدمته له الإمارات من فرصة مواتية لممارسة عمله الفني، كما أسهم أيضاً في تلك الحركة بالكتابة النقدية المتواصلة عن الفن والفنانين في الإمارات موجهاً ومقوماً تجارب الكثير من الشباب.
أما المعرض الملفت للنظر كان عن زوجته بعنوان (حبيبتي رحاب) الأكثر حميمية وقربا لقلبه -يرحمه الله- التي يتغنى بها في كل لقاء ويسعد بأن يشاد بها فهي مجموعته الأخيرة التي استلهم فيها زوجته رحاب صيدم، التي قاسمته الحياة بكل تفاصيلها، أهداها لرحاب الحبيبة والزوجة والصديقة التي كانت الفلسطينية أيقونة ورمزاً للنضال، بحر غزة وبيوت القدس بقبابها والمجتمع والأرض، وحضور لشجرة الزيتون.
لقاء في مرسمه
الذي بث فيه أسراره
كان لي فرصة في إحدى زياراتي المتكررة للشارقة أن أزور مرسم الفنان الراحل عبدالكريم السيد في مناسبة كان يديرها، وتحدثنا كثيرا في تلك الغرفة التي ازدحمت باللوحات المكتملة وغير المكتملة، وأخرى عن فلسطين ووجه يعرفها، وأخرى عن الشارقة وبيئتها الصحراوية وبحرها، دار بيننا حديث طويل مشوق يقطع لحظاته الانسجام والإثراء الذي تلقيته منه -يرحمه الله- قيامه من مكانه لإعداد كوب من الشاي، كان وهو يعده يتحدث بشكل يشعرك بأنه مسكون ومهووس بالفن.
بدا يستعرض لي بعض لوحاته.. البدايات التي يصفها بالتقليدية الواقعيّة، مشيرا إلى أنها كانت للتعبير عن قدراته، بدءا من تجربته بالألوان المائية في الغالب، وصولا إلى استخدام سكاكين الرسم، وصولاً إلى التجريد الذي برز في أعماله الأخيرة.
ومع تباعد الزمن وانقطاعنا عن اللقاء إلا في زيارة لمشاهدة معرضه الاستعادي لمراحله، أربعين عاماً من البحث والتجريب، جمعها في معرض لم نتوقع أو يتوقع هو أيضا أن يكون آخر معارضه، شكل تتويجاً لمسيرته، وحينما التقيته بعد المعرض في المكتبة التي يزدان بها متحف الشارقة للفنون، سألته عن مشاعره وهو يستعيد كل لحظة مر بها ووثقها في كل لمسة فرشاة على لوحاته في هذا المعرض، فقال وهو سعيد كالطفل (لقد كان المعرض بمثابة استعادة الشباب قبل اللوحات، فهو المعرض السادس عشر، التقت فيه لوحاتي التي فرقها الزمن وجاءت كخلاصة، أجد نفسي في كل جزء منها أنها تعيدني إلى بدايتي في السبعينات وحتى يومنا هذا). ويضيف يرحمه الله قائلا (جمعت في المعرض كل ما تلقته العين ووثقته الذاكرة، وفي مقدمتها فلسطين الحبيبة، مشاعر البعد والغربة، فكانت اللوحات الخاصة بفلسطين الحبية عزائي عن البعد عنها).
كما أشار بكل زهو اتضح في صور الحب التي ظهرت في عينيه عندما داعبته بسؤال عن اللوحات الخاصة بزوجته رحاب التي يصفها دائما بالأم الفلسطينية المثالية، فأسهب في وصف تستحقه السيدة رحاب.
سيرة عطرة لن تمحوها الأيام
رحل الفنان عبدالكريم السيد لكن سيرته ومسيرته لم ترحل بقدر ما ستبقيه في الذاكرة الثقافية الخليجية والفلسطينية، ففي ذاكرة العديد من الفنانين على مستوى الوطن العربي موقف أو مشاركة كان للفنان الراحل عبدالكريم السيد دور فيها.
- monif.art@msn.com