«ما لا يمكن سوى للرواية وحدها أن تكتشفه»
ماهو التاريخ فعلياً ؟ إنه رواية قدّمها لنا مؤرخون،وعليك أنت أن تختار مؤرخك، فما قد تراه انتصارا، يراه مؤرخ آخر هزيمة،فعندما يكتب مؤرخ عربي عن الحملات الصليبية، فإنه يعتبرها شراً مستطيراً، ومن وجهة نظر الغرب فهي أحد أسباب التبادل الثقافي بين الغرب والشرق ونقل حضارة الشرق إليهم.. لذلك يأتي دور الأدب والكاتب والروائي، ليحكي وجهة نظرة ويعيد صياغة التاريخ تحت محكمة العقل، يذكر ابن خلدون في مقدمته «ينبغي علينا إعمال العقل في الخبر التاريخي. ويؤكد أن على الروائي أن يُعمل عقله ووعيه في التاريخ، فيعيد بناءه على النحو الذي يؤسس لوعي حقيقي بهذا التاريخ»
ويؤكد الباحث والروائي يوسف زيدان أن هناك مساحة واسعة لحركة التأليف الروائي الذي يتماس مع التاريخ، والمحظور الوحيد هو تغيير الكاتب سواء عن جهل أو عمد، للوقائع التي لا سبيل إلى إنكارها مثل سقوط بغداد على أيدي المغول 656 هجرية، فلا يمكن التشكيك في هذه الواقعة التاريخية. وللروائي من بعد ذلك أفق غير محدود، للحكاية الخيالية عن شخوص روايته الذين عاشوا في هذه الفترة، بشرط إضافي مهم هو أن يعرف الروائي هذه الفترة معرفة جيدة، فلا يقدم لنا شخصيات مشوهة أو غير متوافقة مع طبيعة الحياة فيها.
لذلك عندما تحتاج أن تتعرف عن تاريخ بلد كفرنسا مثلاً، اجزم إن الغالبية ستختار كتاب تاريخي يحكي عن تاريخ تلك المرحلة،ماهي الحروب التي خاضتها،أسماء الرؤساء الذين تتابعوا على حكمها،هزائمهم وانتصاراتهم، تشريعاتهم وقوانينهم، ستجد عند قراءة كل هذه الوقائع كيف إن المؤرخ سيحكي عن المراحل الاقتصادية لهذا المجتمع والأخلاقية، لكن لن يستطيع مؤرخ أن تتاح له فرصة كالشاعر والقاص وكاتب الرواية أن يخبرك عن الإنسان، معاناته أفراحه، كيف كان يفكر، ماذا كان يأكل ويشرب،بقصص الحب التي حدثت بذلك الوقت، عن البيت وكيفية انعكاس الحالة الاقتصادية على العائلة داخل المنزل، كيف للفقير أن يسرق قطعة من الخبز ليسد بها جوعه، في الحقيقة عندما قرأت رواية «البؤساء» للروائي فيكتور هيجو كونت صورة شاملة للمجتمع الفرنسي بتلك الحقبة، إن المؤرخ قد يكون محكوماً بالحقائق الملموسة فقط والوثائق لامجال للتنبؤ والقياس والخيال،ولكن الروائي قدّم لي شخوصًا يمكن أن نتعلم منهم..يمكن أن نحذو حذوهم في العقل،والحلول والتحديات المفروضة عليهم..
إن مقرر التاريخ الذي يدرس في المدارس الغربية يعطي للطالب روايات عدة ويتعلم الطالب كيف يتوصل إلى الحقيقة وسط كل المعلومات المتناقضة، ولكن التاريخ عندنا أحادي الجانب على الرغم من أنه لا توجد حقيقة مطلقة.فعلى سبيل المثال الروائية الإنجليزية الفائزة بجائزة البوكر لهذا العام هيلاري مانتل، عن رواية وولف هال فازت لأنها أتت برؤية مغايرة للأحداث التاريخية، فهي حولت كل الأبطال إلى أوغاد، والأوغاد أصبح لتصرفاتهم مبرر،لقد تخيلت أحداث موازية للأحداث التاريخية، وفي بعض الأحيان تكون متناقضة لها، وهذا نوع من أنواع سرد التاريخ في الرواية وفق خيال الكاتب وهذا النوع رائع للطلاب لتقوية غريزة التفكير وعدم الأخذ بالمسلمات، لأنه لا توجد قدسية للتاريخ، كل فرد يراه بزوايا مختلفة ومتغيرة حسب الزمن.
لنأخذ خماسية عبد الرحمن منيف في «مدن الملح « كأفضل مثال،هذا العمل العظيم الذي صوّر جزءا كبيرا لحياة الصحراء والانقلاب الكبير للأرض والفرد، ورصد ظهور المدينة النفطية الجديدة، وكيفية انتقال الفرد البسيط من الفقر إلى الثراء، وهي أهم عمل روائي سعودي تم تقديمه بهذا السياق التاريخي بطابع روائي، فقدم الكاتب للقارئي شخصية متعب الهذال الرافضة كتعبير عن الموقف العفوي لأصحاب الأرض. يصف هذا الجزء بالتفصيل بناء المدن الجديدة (حران كانت النموذج) والتغيرات القاسية والعاصفة على المستوى المكاني وخاصة الإنساني.إلى أن يصل إلى الجزء الأخير في الخماسية « بادية الظلمات» لرصد حالة الناس في ظل هذه المتغيرات حيث لا تبقى العادات هي نفسها ولا حتى الأمكنة ويتغير حتى الفكر الحالي للفرد في ظل الطفرة..
أحلام الفهمي - الدمام