تأتي هذه القراءة امتداداً لمجموعةٍ من القراءات السريعة (المتواضعة) التي أقف فيها مع نصوصٍ من أشهر نصوص تراثنا العربي، ساعياً إلى تقريب دلالاتها إلى الأذهان، ومحاولاً الكشف عن شيء من أبعادها الجمالية، رغبةً في بيان ملمح من ملامح قيمتها الفنية التي أسهمت في بلوغها هذه المنزلة العالية في تراثنا العربي.
أمَّا نصنا في هذه السطور فأحسبه من أشهر معلقات الشعر الجاهلي، تلك المعلقة التي لم يُكتب مثلها في قوة الفخر وشدَّة العزة والأنفة، أمَّا صاحبها فكفى به معرفةً أن يُقال هو عمرو بن كلثوم، الفتى الذي ساد تغلب، وفتك بملك المناذرة عمرو بن هند في قصةٍ شهيرة لا تخفى على مَن له أدنى اطلاعٍ على تراثنا الأدبي.
يقول ابن كلثوم في أحد مشاهد معلقته:
أبَا هِنْدٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْنا
وأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليَقِينا
بِأَنَّا نُورِدُ الرَّايَاتِ بِيضاً
ونُصْدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رَوِينا
مَتَى نَنْقُلْ إلى قَوْمٍ رَحَانَا
يَكُونُوا في اللِّقاءِ لَها طحينا
بِشُبَّانٍ يَرَوْنَ القَتْلَ مَجْداً
وشِيبٍ في الحُرُوبِ مُجَرَّبِينا
لقَدْ عَلِمَ القَبائِلُ مِنْ مَعَدٍّ
إذا قُبَبٌ بِأَبْطَحِها بُنِينا
بِأَنَّا المُطْعِمُونَ إذا قَدَرْنا
وأَنَّا المُهْلِكُونَ إذا ابْتُلِينا
وأَنَّا المَانِعونَ لِمَا أَرَدْنا
وأنَّا النَّازِلُونَ بِحَيْثُ شِينا
وأنَّا التَّارِكُونَ إذا سَخِطْنا
وأنَّا الآخِذُونَ إذا رَضِينا
* * *
هذا هو المشهد الأول الذي اخترته من نصِّ شاعرنا الفطحل عمرو بن كلثوم، الشاعرِ الجاهلي الذي أبدع لنا هذا النصَّ الاستثنائي، فأجبر التاريخ أن يجعله ضمن أشهر معلقات الشعر العربي، وما زالت كثيرٌ من أبياته يُتمثَّل بألفاظها، ويُستشهد بمعانيها، ويُتغنَّى بإيقاعها، حتى يومنا هذا.
ومعلقة عمرو بن كلثوم هذه ألقاها بحضرة عمرو بن هند، يفتخر فيها بقبليته (تغلب)، ويذكر شجاعة رجالها، وكيف يواجهون الحروب، ويكشف عن أبرز الصفات والمزايا التي تتميز بها قبيلته عن بقية القبائل، في أسلوبٍ لا تنقصه العظمة، وكلماتٍ لا يفارقها الفخر، وأحرفٍ لا تعرفُ سوى المبالغة في الشجاعة والفروسية والعزَّة.
يفتتح شاعرنا الجاهلي هذا المشهد من معلقته الشهيرة بمخاطبة عمروٍ بن هند، ويطلب منه عدم العجلة في الحكم على هذه القبيلة، ويدعوه إلى التريُّث والانتظار حتى يرى مِن أحوالها، ويسمعَ عن أخبارها، ما يجعل حكمه عليها فيما بعدُ يقيناً لا مِرية فيه؛ ولذلك فهو يبدأ بعد هذا بذكر بعضٍ من أحوال هذه القبيلة وأخبارها، خاصةً في ميادين الحرب والقتال، وحين مواجهة الأعداء والأبطال.
فنحنُ يا أبا هند حين نتوجَّه إلى الحرب ونرِدُها نكون حاملين الرايات البيض، فلا نَصدُرُ عنها إلا وقد أضحتْ حُمْراً قد روينا من دماء الأعداء، وفي هذا كشفٌ عن شدَّة شجاعتهم، ومدى إقدامهم في الحروب، وكثرة ما يقتلون من جيش العدو، والشاعر هنا يبرع في استخدام الطباق بين (نُورِد) و(نُصدِر)، كما يوظِّف طباقاً آخر في هذه الصورة الرائعة سماه البلاغيون (طباق التدبيج)، وهو الذي نراه بين لفظتي (بيضاً) و(حمراً)؛ دلالةً على لون هذه الرايات قبل الحرب وبعدها، كما نجد الاستعارة المتألقة هنا حين ينسب الفعل (روينا) إلى الرايات، وكأنها كائنٌ حيٌّ يرتوي من دماء هؤلاء الأعداء.
ويستمرُّ ابن كلثوم في الفخر والافتخار، ويستخدم هذه المرة أسلوب الشرط؛ ليدلَّ على الكثرة والاستمرارية، وأنَّ ما سيخبر عنه هو عادةٌ لهم، ومعروفٌ عنهم، فهذه القبيلة لا يمكن أن تُهزم أو تستسلم أبداً، بل إنها تُبيدُ أعداءَها إبادةً لا يبقى منهم بعدها شيء، ولأنه شاعرٌ متميزٌ، فهو لا يرضى أن يكشف لنا عن هذا المعنى بأسلوبٍ سطحيٍّ واضح، بل عبر تصويرٍ رائعٍ متألق، فقد شبَّه جيشه وقبيلته بالرحى الدائرة حين تتوجَّه لملاقاة العدو، فإذا ما وصلتْ إلى أرض المعركة، دارتْ على الأعداء، فجعلتهم طحينا، في إشارةٍ بديعةٍ إلى شدَّة بأسهم، وسهولة انتصارهم، وقوَّة أخذهم، وفناء أعدائهم.
ويكشف شاعرنا الاستثنائي عن سرِّ شجاعة هذه القبيلة، وسبب بلوغها هذه المنزلة الرفيعة من الشجاعة والقوة، فأفرادُها إمَّا شبابٌ يرون أنَّ الموت في سبيل الدفاع عن الوطن مجدٌ ليس بعده مجد، وأنَّ المنيَّة للدفاع عن حِمى القبيلة شرفٌ ليس بأيِّ شرف، وإمَّا شيبٌ وشيوخٌ قد جرَّبوا الحروب فجرَّبتهم وعرفتهم، فأضحوا ذوي خبرةٍ وتجربة، قد أفنوا عمرهم في هذه الميادين للدفاع عن القبيلة، فما ظنُّك بالقبيلة التي هؤلاء هم رجالُها، وهؤلاء هم جنودُها وحماتُها، كيف سيقومون بالدفاع عنها، والتضحية من أجلها؟
ثم ينتقل شاعرنا المفتخر للحديث عن القبيلة على مستوى بقيَّة القبائل، ويكشف عن صورتها في نظر الناس؛ ليبيِّن للمتلقي كيف تنظر القبائل إلى قبيلة (تغلب) وصفاتها وأوصافها التي تدلُّ على العزَّة في أقوى صورها، والشجاعة في أرفع درجاتها، والفروسية في أوضح مراتبها. فالقبائل كلها تعرف بأنَّ قبيلتنا أكرم القبائل، فنحن المطعمون إذا امتنعتْ القبائل عن ذلك، فلا تلتفت الأنظار إلا إلينا وقت الإطعام، أمَّا إذا اُبتلينا بجيشٍ غازٍ، وعدوٍّ غادر، فنحن المهلكون حينها، فلا يبقى منهم شيء.
ويستمر عمروٌ في الكشف عن الصفات التي تؤكِّد قوَّة قبيلته، وشدَّة تصرُّفها في الأمور، فهذه القبيلة إذا أرادتْ شيئاً ونوتْ الاحتفاظ به فلا يمكن لقوَّةٍ في الأرض أن تأخذه منها؛ لأنَّ منعها للشيء ليس له مثيل، وحفظها له ليس له نظير، وهذه القبيلة إذا أرادتْ النزول بأيِّ أرضٍ فلا يمكن لقبيلةٍ مهما كانت أنْ تمنعها من هذا النزول، أو تفكِّر في خصامها والدخول معها في جدال حول هذا التصرُّف؛ لأنهم يعلمون أنَّ قبيلته لا يمنعها مانع، ولا يردُّها راد، ف(تَغلِب) لا يمكن أن (تُغلَب).
ولا يكتفي الشاعر التغلبي بذلك، بل يزيد في بيان قوَّة هذه القبيلة الشجاعة، ويكشف عن شدَّة بأسها، وذلك عبر صفتين أخيرتين يختم بهما هذا المشهد الثائر، فهذه القبيلة إذا سخِطتْ وغضِبتْ ولم يعجبها هذا الشيء أو ذاك الأمر فإنها تتركه وتتخلَّى عنه دون تردُّد؛ لأنها لا يمكن أن تأخذ شيئاً وهي ساخطة، وهي في الوقت نفسِهِ إذا رضيتْ على شيءٍ وأحبته وأرادتْ امتلاكه فإنَّ أخذها له واستيلاءها عليه أمرٌ لا مفرَّ منه ولا شكَّ فيه، وتتضح في هاتين الصفتين الأخيرتين روعة (المقابلة)، وكيف وظَّفها شاعرنا المتألق في الكشف عن قوَّة قبيلته، وشدَّة بأسها، وسهولة تصرُّفها في الأمور، ف(التاركون) تقابل (الآخذون)، و(إذا سخطنا) تقابل (إذا رضينا)، فهم يتركون إذا سخطوا، ويأخذون إذا رضوا، وقد جاء مثل هذا في القرآن الكريم، لكن في سياقٍ آخر، حيث يقول سبحانه: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون).
* * *
فتأمَّل كيف أبدع عمرو بن كلثوم في هذا النص، وكيف دافع بكلِّ ما يستطيع عن قبيلته، مُظهِراً مفاخرها، وكاشفاً عن قوتها وشدَّة بأسها في الحروب وغير الحروب، وأوضح خلال ذلك كيف كانت تنظر القبائل الأخرى إلى قبيلته، والهيبةَ التي تملأ النفوس حين يجيء ذكر قبيلة (تغلب) في أي مكان..
ومع كلِّ هذا الفخر.. فإنَّ ما تناولتْه هذه السطور لم يكن كلَّ ما قاله، فأبيات هذه المعلقة البديعة تربو على المائة بيت، وقيل بل ألف بيت! وأحاول هنا أن أختار بعض مشاهدها الرائعة ليكون البعض دالاً على الكل.. لذا فلعلَّ الجزء القادم يحلِّق بنا في فضاءات مشهدٍ جديدٍ من مشاهد هذه المعلقة المفتخرة الثائرة.
- بريدة
omar1401@gmail.com