(1)
في الروح صدى صوتٍ يُخيّل إليَّ أنّه لأبي العلاء المعرّي، يظلّ يُردّد:
مُهجتي ضدٌّ يحاربُني
أنَا منّي كيفَ أحترِسُ
يخفتُ بين حين وآخر، لكنّه لا يتلاشى مُذْ وعيتُ سعادة أنْ تتنفّسَ دون خوف من أنفاسك، والعلاقة بين الحريّة وانتظام القلب في مداره، وإعادة النفس إلى طبيعته الإحيائيّة اللا-وعيّة، ودون أن يكون عمليّة حسابيّة مضنية؛
• إيّاك والحلم؟ ابتعدْ عن هذا الجنون الذي ينشره الحلمُ في رئتيك! انظرْ ماذا ترى!
• لا شيء على ما يرام، لا شيء ممّا أرى أريدُ؛ فلماذا إذاً أريدُ..؟
• هذا من فعل الحلم فاعتزلْ حتّى تقوم على الناس أقدارُهم ويحولُ النحلُ بينكَ وبينهم.
(2)
أتكون العزلةُ تطرّفاً؟ والهجرةُ حَلّاً اضطراريّاً قبل انفجار الشمس في النفس؟
رافقني شكّي في طبيعة العزلة أثناء العزلة الذي أجدني فيها دون اتّفاق: بين قدرتها على إعادة النفَس شبه طبيعيٍّ وخضوعها سلماً تحت تصوّرات اليأس، وبين الخوف منها أنْ تقضي على الحياة في تصوّراتي؛ ومردّ العزلة واليأس مرتبط بوعي لا يملك صاحبه ما يحوّله واقعاً أو يراه في الواقع: (فهل هذا وعي أم وجع؟) فوعيك هو هذا: (أن ترى) والواقع (ما لا تريد)؛ عاودني الشكّ في العزلة عند ابتعادي عن النشر في الموسم الثقافي الماضي لأسابيع متتاليّة عدّة، وعدتُ -الصيف الذي انقضى- أقلّب العزلة بين فوائدها ومضارها، والحكايةُ: أنّي لم أحسم أمري بعد في جدوى النشر، بين واقعٍ لا يكاد يتحرّك باتّجاه ما يُرضيكَ وبين ما يصبو إليه الحبرُ حين يدلقُ أحلامَه على ورقٍ منشورٍ، ولا أقول ما جدوى النشر بالإطلاق، حيث إنّ فكرة عدم النشر (خاصّة) تعود إلى كفاية الموجود وجمود الواقع وانحطاطه، ثمّ أنّ يأساً وقوراً يغلبني بين حين وآخر، وقد غلبني في الأشهر الماضيات وما زال إلى (جنبي) رفيقاً بي: أنْ تكونَ كاتباً، فذلك يعني: أنّك جزءٌ من هذا الذي تنقدُهُ وتنتقدُهُ، دون ذلك فإنّك تمارس هروباً لا يصمد عند أدنى مواجهة مع النفس قبل المواجهة مع الآخرين؛ وعلى هذا الإقرار فإنّ التوقّف عن نشر الكتابة أو ربّما الكتابة نفسها، هو الابتعاد عن هذا الوجع النفسي في مقصلة المسؤوليّة وأنت عاجزٌ كليّاً، في مذبح هذه الأسئلة اللحوحة المهلكة الباحثة عن حلولٍ لهذا التراكم التاريخي من التعقيدات والمتشابكات والمتهالكات.
• تُبْ عن هذا العبث الهالك، إلى أيّ جنون تأخذك الكتابة!
• رَهْ .... أنّك في قرارٍ دون قرار.
ولست وحيداً مَنْ أصابَهُ هذا الحمْل الموجعُ مذ رمى الربيعُ العربيّ حرائقَهُ وأودى بآخر محتملات نشوء حداثة في المنطقة العربيّة، إذّاك عدتُ إلى عهدي مأسوراً باليأس من جدوى الهاوية، ولم تعُد المسألة يأساً فكريّاً، إنّما حولك مدن عربيّة قد سقطت في أتون المحرقة الأهليّة، فليس ترفاً تلك الكوابيس ذات التصوّرات المرعبة القادمة، بعد سؤال: (ثمّ إلى أين؟)، وعدْتُ حُرّاً من وهم الحريّة: (ما أبعدك أيتها الحرية..) أحاول أن أحرّرَ أنفاسي من هذا الوهم، وأمضي باتّجاه اغتنام السعادة في فرديّة وجوديّة غصباً عن اضطرابات الخافق التي تهدّدني بين حين وآخر، وبعيداً عن جحيم الواقع الذي تأسرني تفاصيله أن أكونَ مهده ولحده، وراهبه وصاحبه، وعرّابه وأوّابه، حتّى اتّهمني من اتّهمَ: «أنّي حليف الواقع وعدوّ الحلم»، ولكم كان يردّد: (تعرفُ نتائجَ الأمور قبل الإثباتات الماديّة)، لكنّه عابَ وغابَ ثمّ آبَ وما تابَ، ليسألني: (لماذا توقّفتَ عن النشر؟)
• أزعجني السؤال؟ ربّما... أعادني إلى مواجهة مع اليأس لم أكن مستعدّاً لها.
• أرضاني؟ محتملٌ، فالعزلة موتٌ واختراقها من الخارج قد يكون مدعاة للرضا...!!!!
الجوهرُ - ليس هنا تحديداً- إنّما في عودتي لغور العزلة، أحاكمها هذه المرّة، وأحاكم من أخرجني منها:
(أ) لعلّها تنتصرُ عليّ فأتوب عن جدالها وأكفّ عن التردّد والتشتّت الذهني الذي أخفيه بادّعاءات مغلّفة، أو أحيله إلى سببٍ من أسباب خفقان القلب وعدم انتظام دقّاته،
(ب) أو لعلّي أصرع العزلة غلبةً فيتلاشى هذا التردّد والتشتّت، وأحظى بالعمادة في الخروج منها إلى الأبد، فما كنتُ باحثاً فيها، بل عالقاً في شرَكٍ لهُ ما يحصّنه أو يتماهى به كي لا يبدو شركاً.
(3)
كنتُ وما زلتُ، أخشى (كلّ خميس أولاً ثمّ كلّ سبت الآن/بعد أن تغيّر يوم إصدار الثقافيّة)، وهو الموعد الذي يُفترض بي أن أُرسلَ موضوعي إلى إيميل الدكتور إبراهيم التركي، ولكم تأخّرتُ والموضوع جاهزٌ، إنّما التردّد في جدوى النشر، ثمّ وساوس أخرى لا أطيق على سردها هاهنا؛ ومرّة أخرى: كيف نشأ السؤال: (هل العزلةُ تطرّفٌ)؟ وأين الخطأ في كون: (ما أراه ليس ما أريده)؟ هل العزلة من الرؤية أم العزلة من الواقع؟
هل من المفيد البحث في تفاصيل نشأة السؤال، هل أحكي حكاية الآن أم أكتب مقالاً أم سرديّة وجوديّة ليس غا يتها التبشير بالوجوديّة بقدر ما غايتها التحرّر من الأثر السياسي على الصعيد النفسي؟ ما الذي حلّ في تركيزي؟ مَنْ شتّت هذا النهر الجاري؟
هنا، في ملف المخطوطات، توجد بضعة عناوين وموضوعات أنجزت صياغتها الأولية أو عبر نقاط سريعة كمفاتيح بحث لموضوعات مقاليّة قادمة؛ وجاداً، أردعُ نفسي: أن تظنّ أنّ مخزوني الكتابي قادرٌ على الاستمرار؛ هل نشأ السؤال بسبب الاستمرار أم الحصار؟ هل نشأ بسبب التعارض القاهر بين ما تريد وما ترى؟ فإنْ كان محمود دوريش يقول من المنفى: (أرى ما أريد)، فإنّ ما يحدث هنا في ذهني عبر هذا الصراع اليوميّ في البقاء بمنأى عن جحيم المحتملات السيئة: (فإنّي أرى ما لا أريد).
كيف العزلةُ (تطرّفٌ أو/ تطرّفاً أو/ في تطرّفٍ)؟؟؟ على دلالة واقتضاء كلّ حركة؛ ربما يمكن النظر إلى العزلةِ أنّها ضدّ التحيّز للحركة؟ وأنّها ميلٌ إلى السكون، ومن جهة أخرى، يمكن النظر إليها على أنّها إقامة جبريّة معكوسة، بحيث إنّ المعتزل يخشى على سلامته، ويعصم النفس من الناس، وقد بات بينه وبينهم موج وطوفان؛ وهذا هو الظنّ لكن ...؟
حينما تساءلتُ أنا أو نفسي أو شخص يدّعي الحياد، وعادة ما يتطفّل ويحكم بيني وبين نفسي، كلّ حظّه من الوجود أنّه الاسم الثاني لي (فيقدّم بين وقت وآخر آراءه ولا يفرضها)، بعضهم يُعرّف الاسم الثاني على أنّه اسم الدينونة أو الغيابة...
هل العزلةُ غرورٌ؟ كما غرور في دم المتنبي:
(أَنَا فِي أُمَّةٍ تَدَاركَهَا اللهُ
غَرِيْبٌ كصَالِحٍ في ثَمُوْدِ)
والحقّ، لم أكن يوماً لأردّدَ هذا البيت، أو يُرضيني معناه، ولطالما أنا الآن في مزاج كوني تتضخّم فيه الوجوديّة دون مُبرّر سوى أنّي صاحب الحبر هنا، وحسبي (الأنا) هنا ليست مقصورة على (الأنا-الأنا) إنّما لها من الوجوه كلّ (أنا) لا تجد أناها ولا تجد حرّيتها في الوجود والسعادة بمنأى عن فوبيا العواقب، لطالما لم تقرب هذه (الأنا) حدود (الآخر)، وحولي هذه المساحة التي قد تكون سنبلة أو مقصلة... وبين يديّ الآن من دفاتري الصغيرة التي أكتب عليها خربشاتي كأنّها كرسي اعتراف، وقد عجّلنا الأحد إلى سبتٍ، والفصحُ ليس أوانه (كانون).
(4)
في الزوايا، في العتمات تكون عزلة النسّاك/الرهبان/الزهّاد، كأنما يتعالون على الناس على رغم ادّعاءاتهم أو قناعاتهم بالزهد والرضا أو ربّما يخشونهم؛ الزهدُ بحدّ ذاته طرفٌ بوصفه موقفاً ضدّيّاً من الحياة والسعادة، على هذا المنحنى تظهر العزلةُ على أنّها إقرارُ اختلافٍ بين المعتزل والناس؛ واقتضاءً: فإنّ حكاية التطرّف قريبة من هذا المنحنى. أو أخاف على عزلتي أن تتورّط بهذا المنحنى، وهي عزلة لكنّها ليست ضدّ السعادة أبداً وليست زهداً ضدّ الاستمتاع، بل ضدّ أن تتورّط حياتك كلّها ومن حولها بسبب وجهة نظر تخصّ معنى ما، في موقفٍ ما، وظرفٍ ما، فتحرمك حينذاك من وجوديتك في معنى السعادة الذي هو المعنى الأهم عندك للإنسان، ومعنى أن يكون حيّاً على هذه الأرض!!! وفي المقابل: كيف تأتي السعادة في العزلة إذا كان حولك يتساقط في أتون العذابات، والمأساة تقتطع مساحة كبيرة من نفوس الناس!!
الحكاية: كيف تفصل نفسك عن العموم وتكون حيّاً، و/أو كيف تكون معهم ولا تنفجر وهم يصادرون عليك حريتك في المعتقد والملبس والمأكل والمشرب وفي أسماء بناتك وحكاياتك وجميع تلك الأفعال التي تخصّ حريتك ولا تضرّ بهم؟ كيف تكون الحريّةُ قيمة الإنسان إذا كان الإنسان في عزلةٍ، هذا سؤالٌ جَبَلٌ يكسر ظهر مدارس فلسفيّة؟ ثمّ من أنت إذا لم يرك الناسُ؟! ألست على قناعة أنّ الموجدَ للأشياء هو إظهارُها، وليس الوجود المادي بحدّ ذاته؛ (هل أعيدُ أو أدوّن هنا ما دارَ بيننا مراراً؟ حسناً: كم مرّة أخبرتك: أنّ الوعي بالأشياء موجدها، أنّ الوعي بالتاريخ هو موجدُ التاريخ، وإن كان التاريخ سابقاً على وجود الوعي، لكنّ غياب الوعي طمس أكيد للتاريخ الموجود، وبصياغة أخرى: إن لم يوجد الوعي لم يكن التاريخ ليظهر أنّه موجودٌ، فإن كانت المادة سابقة على الوعي، إلاّ أنّ الوعي هو المسؤول عن إظهار المادة وأسبقيّتها الوجوديّة، وإن كان الوعي فرعاً من حركة المادّة أو نتيجة للمادة، هكذا تكون النتيجة موجدة السبب في مفارقة بارادوكسيّة، يضعك في طريقها صعوبةُ العلاقة بين الوعي واللا-وعي، بين الوعي والوجود). فأنت لا تكون موجوداً إلاّ إذا رآك الآخرون، أنت موجودٌ بعيون من يراك، وكلّما كنت مع الناس كنت أكثر وجوداً وتعدّداً وأكثر ابتعاداً عن الطرف، وكلّما كنت معتزلاً وبعيداً عن الناس -في عزلة ضيّقة- كنت واحداً وحيداً لا يُعرف، حسبه أنّه في طرفٍ معتم يتلاشى ولا يرى شيئاً: لا يرى ما يريدُ، ولا يرى ما لا يريد، خاضعاً لعُزلةٍ تُعيد تكوينه حتّى ينزوي ويحتضر في صمتٍ لا يمسُّه فرحٌ وسعدُ.
• ودونك يا قلب هذا المصير.. أيّها الموعود بالغياب في أوج المتعة والضحكات.
- جدة