وصفوه في التكريم وفي شهادة التكريم «صاحب الأنامل الذهبية»، هو أحمد متولي الذي خرجت الكثير من الأشرطة السينمائية العربية من بين أنامله الذهبية، وهو يثبت التفاتة الممثل ويحسب حساب الثواني لمرور القطار الذي يسافر به عماد حمدي من القاهرة إلى الإسكندرية، ويدخل صوت موج البحر الهادئ أو المضطرب في رحلة أبناء البحر حين يصعد فريد شوقي في زورق ويدخل لجة البحر، هو الذي يقرر كم يبقى وجه عبد الحليم حافظ على الشاشة في لقطة الأغنية مع أنه قال لي أن عبد الحليم حافظ هو الوحيد الذي أسمح له بدخول غرفة المونتاج لأنه حريص على أفلامه ومتعب في حرصه. كنت أزوره في ستوديو الإهرام وفي الليل نأخذ الكراسي الخشبية ونجلس هناك نتأمل التاريخ العريق قرب الإهرامات، وفي عطلة الأسبوع تكون عوامته في النيل مكاناً لإستراحتي ألجأ إليها، فأنام ظهراً وتهتز العوامة مع تموجات النيل فأركن لنومة هادئة كما المهد في طفولتي تنقصها أغنية التنويمة التي تغنيها لي والدتي -رحمها الله «دللول يا الولد يا ابني دللول.. عدوك عليل وساكن الجول»!
أحمد متولي الذي تقاعد اليوم بدرجة وكيل وزارة الإعلام يصر أن يلقب بالمونتير، فهي مهنة الإبداع ومصيدة المخرجين وكتاب السيناريو حين يقعون في فخ أحمد متولي، فيمسح أخطاءهم من الفيلم ويرمم أخطاءهم ويرمي بمتبقي الأفلام في سلة بقايا الأفلام. هذه السلة التي يرميها المنتج وشركات الإنتاج هي بقايا الفيلم وكميات اللقطات الفاشلة والمعادة. تمتلئ السلة بعشرات الآلاف من أمتار الأفلام السينمائية التي صنعتها أهم شركات إنتاج الأفلام الخام وصورها أهم مصوري الأفلام ومثل فيها أهم ممثلي الأفلام وأظهرتها وطبعتها أهم ستوديوهات الأفلام، ومنتجها أهم مولفي الأفلام وعرضتها أهم صالات عرض الأفلام وشاهدها أهم مشاهدي الأفلام وكتب عنها أهم نقاد الأفلام، ترمى في سلة الـ (out) ويصار إلى نفيها ضمن النفايات أو حرقها، لكن أنامل «أحمد متولي» الذهبية تعرف قيمة هذه النفايات ولا يرميها، فيقول لي كل صورة ثابتة وكل أربع وعشرين صورة ثابتة من الثانية المتحركة سينمائياً هي حقيقة موضوعية.. هي صورة شوارع القاهرة وصورة بحر الإسكندرية ورمال ساحلها، هي صعيد مصر ونخيله، هي فضاء مصر، وهي حواري مصر في الأمبابة والزمالك، هي السد العالي، وهي جسر العبور في حربنا مع الأعداء ولقطات جندنا البواسل، هي صيحات الأطفال وهم يبيعون صور كليوبترا أمام باب متحف مصر.. هذه الأفلام لا يجوز نفيها واعتبارها من النفايات، فكان ينقلها على فورمات «في أج أس» ويحتفظ بها.. هذه مهمة دولة ومهمة وزارة ثقافة أن تحفظ ذاكرة الأوطان، أوطاننا التي تعيش من دون ذاكرة!
في عام 2009 أخذني أحمد متولي ليريني مفاجأة عظيمة في الإسكندرية وإذا بي داخل مشروع مدينة سينما كان يحلم بإنشائها.. مدينة سينما بنى في داخلها بلاتوهات ومساحات تصوير.. مدينة كبيرة. قلت له «إيه ده يا أحمد.. هذه مهمة دولة أو مهمة شركات عملاقة مثل شركات هوليوود»، ثم ما هي الأفلام التي تؤدى في هذه المدينة السينمائية حتى تغطي كلفتها.. قال لي «زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون». أراد أن يضع أسساً مادية لصناعة السينما في مصر..
لقد حضرت مهرجان السينما في القاهرة في هذا العام في دورته السابعة والثلاثين، ولخمسة أيام منه قضيت مع أحمد متولي يومين منها، وكان ينبغي أن أقضي الأيام الخمسة معه لأنه بتاريخه يمثل كل مهرجانات السينما في مصر. وبتاريخه يعرف كل حكايات السينما في مصر وأنا أستمتع بالاستماع لحكايات النجوم التي تألقت على شاشة السينما العربية.
عندما حل موعد التكريم، تكريم صاحب الأنامل الذهبية، جاء أصدقاؤه من نقابة السينمائيين، جاء أبناء جيله، وأنزلوه من السلم إلى السيارة التي أخذته إلى مقر نقابة السينمائيين وساعدوه كي يتربع على عرش المونتاج ويتوجوه ملكاً للسينما في مصر ليعلنوا تكريمه وقد امتلأت الصالة بكل نجوم مصر يسلمون على «أحمد متولي» ويوقعون شهادة التكريم «أحمد متولي صاحب الأنامل الذهبية».
طلب مني أن يشاهد في بيته أفلامي الأخيرة فيلم «المغني» وفيلم «بغداد خارج بغداد»، وكنت طبعت له الأفلام كي يتمتع بمشاهدة غباء الدكتاتور ويضحك من رعونته في فيلم «المغني» وكي يذرف دمعة على بغداد التي رحلت خارج بغداد، وسألني عن فيلم «بيوت في ذلك الزقاق» كان هو الذي عمل مونتاج فيلمي هذا بأنامله الذهبية وكنا نتنقل حينها بين نهر دجلة في العراق وستوديو الإهرام في مصر.. كان ذلك عام 1977.. سألني ماذا حل في البيوت في ذلك الزقاق؟ قلت له رحلت ولم تعد في مكانها.. تغيرت ملامح المكان!
«متى بنينا بيتاً يدوم إلى الأبد؟!
متى وقعنا عقداً يدوم إلى الأبد؟!»
- هولندا
k.h.sununu@gmail.com