وبعد الإسلام ازدادت هامشية مفهوم البطولة والبطل لأسباب أيضاً منها:
1 - نفور المسلمين من الشعر بعد ذكر آية من القرآن الكريم في سورة الشعراء ربطت الشعر بالغواية والكذب، كما أن المسلمين ابتعدوا عن إحياء القصص الشعرية قبل الإسلام باعتبار أصحابها كفّاراً ولا يجوز إحياء تراثها.
والحقيقة أن موقف أوائل المسلمين والصحابة من الشعر الجاهلي وإحيائيته كان عائداً لفهمهم الخاص باعتبار أن الشعر الجاهلي كان مُروّجاً للفتنة القبلية والعادات السيئة التي حرّمها الإسلام، وخوفهم أن يطغى الشعر على تداول القرآن وحفظه.
وليس لموقف معرفي جاء به الإسلام، فالإسلام حثّ على «مصداقية الشعر» و»إيجابيّة صانعه» وهما قيمتان ظهرتا في النقد العالمي الحديث، ولم يُحرمه.
2 - عندما نتأمل العقيدة الأسطورية في المسيحية سنجد أن نشأتها تتمركز على «الخلق المعجز لعيسى عليه السلام» والذي كان متجاوزاً لعقلية المسيحيين وذلك التجاوز لإدراك المسيحيين كيف يُخلق طفل بلا أب دفعهم إلى تأليف حكايات تعتمد على المفهوم الخارق مستفيدين من تراثهم الأسطوري قبل دخولهم المسيحية حتى وصلوا إلى «أسطورة الثالوث» وما انبثق منها من أساطير وما استوحى منها من أساطير حتى يومنا هذا.
لكن في الإسلام الأمر مختلف لأن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام لم يُخلق بمعجزة كعيسى، ولعل عاديّة الخلق هي التي جعلت كفار قريش يكذبون بنبوءة الرسول الكريم ثم يطلبون منه حتى يُصدقونه معجزات تُبت نبوءته فطلبوا منه تفجير الينابيع والتّرقي إلى السماء وإعادة الموتى وإنزال الله والملائكة، وكان رده عليه السلام: {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً}.
ثم إن القرآن أكدّ على إنسانية الرسول الكريم وعلى حقيقة موته وفنائه، ليؤكد للمسلمين بتلك الإنسانية الفانية أن لا خلود لبشر على الأرض وليحميهم من الوقوع في خرافات التقديس، كما نهى علية الصلاة والسلام اتخاذ قبره وثناً يُعبد بعده.
إذن هذا التأطير البشريّ لشخصية الرسول الكريم وهو أعظم إنسان عند المسلمين رفع المفهوم الخارق أو الأسطوري عن شخصيته الكريمة.
وهو ما يعني في الذهنية الإسلامية رفع بالتبعية أي قيمة أسطورية أو خارقة عن أي شخصية، وتوسيع التأطير البشري ليشمل الجميع.
3 - ارتباط الفتنة بمفهوم البطولة؛ كانت الفتوحات الإسلامية تربة خصبة لبروز مفهوم البطولة وتطور هذا المفهوم وبخاصة أن تلك الفتوحات أظهرت أبطالاً عظماء أمثال؛ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص الذين قادوا المسلمين إلى فتوحات مذهلة أخضعت أعظم إمبراطوريتين في التاريخ القديم قبل الإسلام.
لكن لماذا هؤلاء وغيرهم من أبطال وقادة الفتوحات الإسلامية لم يستطيعوا أن يؤسسوا لمفهوم البطل والبطولة؟.
إن القيمة عادة ما تختفي في ضوء العلليّة؛ لقد آمن المسلمون بأن النصر الذي حُقق لهم من خلال الفتوحات الإسلامية هو مُقدّر من الله لعباده المؤمنين أولاً، ثم بإخلاص المسلمين لعقيدتهم ثانياً.
وبذلك لا يتعلّق ذلك النصر بقدرات فرد أو خوارق ممنوحة له، إذن هذا الفصل بين صانع النصر ومقدّره هو الذي أبرز العلليّة على قيمة المشيئة البشرية سواء على مستوى خصوصية القيادة والقادرة على صناعة البطل وتمييزه دلالياً، أو على مستوى التحكم في قدريّة التأثير.
أضف إلى ذلك فقر الذاكرة العربية قبل الإسلام لمفهوم البطل وغياب حضوره الدلالي في التأثير القدري لأحوال العرب .
ولا يغيب علينا هنا «حدّة نموذج القياس وأعلويته».
إذا كان العرب قبل الإسلام لم يتمكنوا من صناعة «نموذج لقياس مفهوم البطل».
ففي ظل الإسلام أصبح الرسول الكريم هو «النموذج الشمولي لقياس» الكمالية المطلقة باعتبار العصمة التي مُنحت له بموجب النبوءة، والكليّة المثالية «فهو كل شيء في تمامه، وهو كل شيء في صحيحه»؛ وهو ما أدى فيما بعد بربط «الولاية بالإمامية» لتتفق مع ذلك النموذج الشمولي لقياس الكمالية المطلقة والكليّة المثالية، وتحقيق الفرد لذلك يعني تعدد مصادر شمولية القياس وتلك التعددية تؤدي بدورها إلى «فتنة معتقدية» مضمونها أن من يقترب بالقياس من دلالة النموذج الشمولي لتلك الكمالية والكليّة الصحيّة يشترك في عظمة أصل النموذج الشمولي، وهذا الاشتراك قد يدفع الناس إلى إصدار حكم تمجيدي ثابت للمشترِك مع أصل النموذج الشمولي للقياس، وهو ما يحول ذلك الحكم بالتقادم إلى قيمة تعبديّة؛ ولذلك عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد عندما وصل إليه تمجيد الناس لبطولاته، ولعل إدراك عمر بن الخطاب بطبيعة النفس الإنسانية التي تميل إلى تصديق المُعجِز بالتمثيل هو ما دفعه من إخراج خالد بن الوليد من المشهد العام للمسلمين.
وصرامة ذلك النموذج الشمولي للقياس هو الذي أدى إلى «موت البطل» في التراث الإسلامي، فالقاعدة أصبحت أن البطل بمفهوم الكمال والكليّة لا يُمكن أن يتحقق إلا بتمثيل النموذج الشمولي لأنه مصدر قياس، والتمثيل في ذاته محفوف بعقوبات شرّعتها المدونة الفقهية.
ومع ظهور المدونة الفقهية وسيطرتها على العقل الإسلامي استطاعت أن تُنشئ مرتبة ثانية من ذلك النموذج الشمولي لقياس الكمالية والكليّة وربطت قدسيتها بقدسية النموذج الشمولي ذي المرتبة الأولى؛ ولذا تُحرم المدونة الفقهية على المسلمين نقدَ كبار الصحابة وتحليل أفعالهم، لقد حذّرنا الرسول الكريم من «سبّ أصحابه» وليس من نقدهم، كما حرّمت تلك المدونة تمثيل تلك الشخصيات شكلاً حتى لا تفقد قدسيّتها وبذلك تم التساوي بينهم وبين الأنبياء، ثم وسّعت تلك المدونة شرائح نموذجها الشمولي الثاني لتضم إليها رجال الدين وأحاطتهم بقدسية منطلقة من ركيزتين أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن لحوم العلماء مسمومة، وهذه التمييزية وهي الفتنة العظمى التي جعلت رجال الدين يستعمرون العقل الإسلامي.
هذه النخبوية في اختيار المقدّس البشري هي التي أزاحت مفهوم البطل من المدونة التاريخية حتى لا تغلب تلك النخبوية.
إن الدلالة التمييزيّة الصانعة للنموذج الشمولي للكلية والكمالية هي من تأسيس المدونة الفقهية؛ ولذلك هي التي تحكمت في وضع مفهومها ومعيارها.
إن مصدر صناعة النموذج الشمولي للكمالية والكليّة كمرتبة ثانية هو ديني وليس بطولياً، وتثبيت رسميّة الاعتراف بأصل طبيعة هذا المصدر يعود إلى اعتبار المدونة الفقهية أن «الصفة الغالبة» على الرسول الكريم هي «الصفة الدينية» وبذلك فإن من الوجوب أن يكون «الديني» المصدر الوحيد لصناعة النموذج الشمولي لقياس الكمالية والكليّة ولا مصدر غيره.
إن الحصانة التي يتمتع بها رجال الدين وفق التأويل الفقهي لبعض الأحاديث النبوية هي داعم ومؤكد لاستحقاق رجال الدين الانضمام للنموذج الشمولي للكمالية والكليّة.
إضافة إلى أن ما تعرض له رجال الدين من اضطهاد على يدّ السلطة الحاكمة على مدار تاريخ الدولة الإسلامية، وما يملك هؤلاء رجال الدين من تأثير في تشكيل عقليات المجتمعات الإسلامية.
وهيمنة المدونة الفقهية على عقول جماهير المجتمعات الإسلامية لا شك أنها زرعت ثقة عمياء بين رجال الدين والناس، حتى تحول رجال الدين في بعض المجتمعات العربية إلى معادل للنبوءة، فهو لا ينطق عن الهوى، وبذلك أصبح رجال الدين في منظومة المدونة الفقهية السنيّة مفهوماً معادِلاً لولاية الفقيه عند الشيعة.
وبذلك يُمكن إيجاز أن الاستحقاق بانضمام رجال الدين إلى النموذج الشمولي للكمالية والكلية في مرتبته الثانية وفق رؤية المدونة الفقهية لأربعة عوامل:
1 - أصل طبيعة مصدر الاستحقاق وهو «المصدر الديني».
2 - الحصانة المدعومة بالقرآن والسنّة.
3 - الاضطهاد الذي تعرض له رجال الدين والنضال المستمر ضد طغيان اللا دينية.
4 - امتلاكهم القدرة على التأثير على العقل الجمعي والتحكم في مساراته.
5 - الثقة المطلقة من قبل الجمهور الجمعي بقيمة رجال الدين وصدقيتهم، تلك الثقة التي جعلت تلك الجماهير تؤمن بكلام هؤلاء أكثر من إيمانها بالنصوص المقدسة.
وهو ما جرّ على المجتمعات العربية فيما بعد ويلات الإرهاب بسبب الخطاب التطرفي لهؤلاء.
- جدة