لقد ظهرت في السنوات الأخيرة الحاجة الكبرى إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني بما يتوافق مع الأساليب المتبناة لهذا الخطاب، وذلك من حيث المناهج والصيغ والقوالب والأساليب وطرق عرض الرسالة والدعوة إلى مبادئه السمحة وإيصال مقاصد الشريعة.
فالحاجة إلى ذلك التجديد يتزامن مع انطلاق ثورتين متضادتين تتمثل في الثورة المعلوماتية الهائلة مع تطور التقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد مما أدى إلى تصاغر العالم وتقاربه (العولمة) حتى صار العالم وكأنه قرية صغيرة، فصار على الخطاب الديني الذي كان محصوراً في مجتمع ضيق يتمثل في دور العبادة ومنابر الخطب أن يواكب ذلك التطور الهائل من حيث الوسائل التقنية والمعلوماتية، ومن حيث المحتوى المبثوث عبر تلك الوسائل، بينما الثورة الأخرى هي ارتفاع وتيرة الكراهية والتطرف الديني والدعوة إلى نبذ التعايش السلمي والإخاء بين أفراد المجتمع الواحد وتصنيف الإنسان بناء على دينه ومذهبه.
إن تلك الثورة المضادة كانت بمثابة استغلال سلبي لوسائل التقنية المعلوماتية الجديدة، فانتقال الدين من المعتقد إلى الدعوة إليه هي عملية تحتاج إلى دراية وتخصص، كما تحتاج إلى مرونة في استخدام الوسائل، وفهماً عميقاً للمضامين التي أتت بها النصوص المقدسة وتحليلها بما لا يتعارض مع لغة العقل، أما أن يكون استخدام تلك الوسائل في الدعوة إلى التوقف عن التفكير والعودة إلى الوراء والانتقاص من الآخرين ومعتقداته فإن ذلك لن يخدم الدين في أي شيء، بل إنه سوف يحول الدين إلى (الكهنوت) ويعيد الزمن إلى عصور الظلام في أوروبا!
إن الدعوة إلى التجديد ليست كما يفهمها بعض المتشددين بأنها دعوة إلى (تبديد) هذا الدين وإضعاف الإيمان في نفوس المؤمنين، بل إنها دعوة إلى حمل الرسالة التنويرية على ظهر حمامة السلام بدلاً من إيصالها بشكل مشوه على يد (غول) مخيف يدّعي أنه يحمل القيم الأسمى والمعاني الأرقى لهذا الدين!
لذلك فإن تجديد الخطاب يبدأ أولاً من تجديد الفكر، ولعل في التجربة الغربية مثال لا أدعو إلى أخذه بالكامل، بل أدعو إلى الاستفادة من مضمونه، فحين تحولت المسيحية من دين ومعتقد إلى كهنوت وتحولت أوروبا إلى الظلام كانت ثورة العقلانيين في القرنين الخامس والسادس عشر من الميلاد، ذلك لأن الفكر الديني آنذاك كان مختطفاً من الكهنة الذين أصبحوا أقوى وأشد سلطة من الدولة، فصار في الدولة سلطتان، سلطة النظام وسلطة رجال الدين، وكانت الغلبة لسلطة رجال الدين الذين صاغوا الأنظمة وفق أهوائهم!
لذا يمكن القول إن تجديد الفكر يتحدد من الغاية الداعية إلى تجويد الخطاب وإرشاد السلوك إلى الغاية الأسمى، وذلك لا يتعارض أبداً مع الثوابت والمسلمات والتي هي من أصول الدين وأركانه، لذلك فإن الدعوة إلى التجديد الديني الثقافي هي دعوة إلى الكثير من التيارات الفكرية الثقافية لتغذية الفكر الديني بأطروحاتهم وقراءاتهم ومحاصرة منابع الخطاب المتشدد التي اعتمدت لسنوات على التفسير المتزمت والقراءة الجافة والتأويل المتصلب لما جاء في الآيات الربانية والأحاديث النبوية.
ففي زمن حوار الأديان والتقارب بين جميع أفراد المجتمع بمختلف معتقداتهم الدينية، لا يمكن قطعاً القبول بقول قائل متشدد أن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني وتنقيح الفكر الإسلامي من شوائب البدع وتأويلات المتزمتين هي دعوة إلى خلط الحق بالباطل حتى يضيع الحق ويتبدد أشتاتاً في جوانب الباطل. فذلك التخويف من التجديد ليس إلا خوفاً من الانفتاح على العالم، بما يفسد مخططات الراغبين في سرقة هذا الدين من قلوب الناس وعقولهم وتحويله إلى الكهنوت، لخدمة مصالحهم الشخصية وضمان استمرار وجاهتهم المجتمعية.
عادل بن مبارك الدوسري - الرياض
البريد الالكتروني: aaa-am26@hotmail.com
تويتر: @AaaAm26