نختم هذه السلسلة اليوم بهذه المقالة الخامسة الأخيرة، عن (الناحية التربوية) ومتفرقات أخرى عند جون لوك خاصة؛ ثم عن (الفلسفة الواقعية والتربية) بشكل عام.
فمما يُحسب للوك في موضوع «التربية»، اهتمامه بالطفل وتربيته اهتمامًا فائقاً، فقد حذر بقوة من القسوة والتخويف في العملية التربوية، وقرر أن الأطفال لا يمكن أن يستجيبوا ويطيعوا الكبار طاعة حقيقية كاملة مفيدة إيجابية، باستخدام العصا والضرب والرعب، فالقسوة عنده هي المدمر لروح الطفل والمحطم لعقله.
لقد حثَّ لوك الآباء والمربين على إعداد الطفل لمواجهة الحياة، من خلال الرفق واللين والعمل على البناء الشامل لشخصيته، والعناية بجسده من خلال التربية الرياضية المهمة جدًا في نظر لوك؛ لأنها تعلم التلميذ المثابرة، وتجعله قادرًا على تحمل الصعاب.. كما حثهم على تنمية مهارات الطفل العقلية والإبداعية، وتجنب أسلوب «التلقين» وحشو العقل بالمعلومات الجافة.
ولا شك أن جون لوك من الآباء الروحيين الكبار لليبرالية عامة، وخاصة الليبرالية السياسية، وقد ظهر كثير من ذلك في المقالة السابقة.. والزبدة في هذا أو الملخص الأخير، هو أن جون اهتم كثيرًا بالحرية والمساواة والعدالة بين الناس في المجتمع من كلِّ الوجوه، ودعا بقوة إلى (القوانين) فسيادة القانون مطلبٌ ملحٌّ عنده دائمًا، لنجاح المجتمع واستقرار العقد الاجتماعي.. وهذا كله شديد الارتباط بفلسفته التربوية من زاوية معينة، فهو يرى أن غياب القانون أو ضعف سيادته يُعيد المجتمع أو يقربه من الوضع البدائي الهمجي.. كما سلّط لوك الضوء على ضرورة المساواة بين الجنسين، فقرر أن وضع المرأة كتابع للرجل ليس من معطيات الطبيعة، بل خطأ أوجده وضخّمه البشر.
ونختم بتأمل نص اخترته لجون لوك، تحت عنوان «المدنية والطبيعة» يؤكد فيه لوك أن البشر بوصفهم أحرارًا مستقلين بالطبع، لا يمكن إخراج أيّ فرد منهم من دائرة الاستقلالية والحرية، أي أننا لا نستطيع إخضاع أي إنسان لسلطة إنسان آخر إلا بموافقته، وهذه الموافقة تظهر غالبًا في صورة (العقود الاجتماعية) التي شرحناها بتكرار سابقًا، أو -بعبارة أخرى- في صورة الانضمام إلى مجموعة بشرية، أو تأليف مجموعة بشرية مع بشر آخرين، يعيشون فيها بسلام وأمان على أنفسهم وأموالهم، ولا يخشون فيها من الغرباء عنهم.
ومن الجميل في نص لوك، إشارة سياسية خاطفة من خلال فكرة النص، وهي أن أي مجموعة من الناس –كبرت أو صغرت- إذا شكلوا جماعة ما، ووضعوا لها تنظيما وقوانين عامة، فإنهم بذلك يكونون قد دخلوا في تكوين حكومة، سواء شعروا أم لم يشعروا.. إنهم يصبحون بذلك هيأة سياسية واحدة، للأكثرية منهم الحق في التصرّف، وفي إلزام الآخرين بما تم الاتفاق عليه من قبل الأكثرية.
والخلاصة عند لوك في هذا الموضوع هي أن كل إنسان ينتقل من «الطور الطبيعي» لينخرط في جماعة ما، يتحتم عليه الانصياع لقراراتها وقوانينها، كما يجب عليه الالتزام بتعاقداته مع الآخرين، وبهذه الطريقة نشأتْ وتنشأ كلُّ الحكومات الشرعية في العالم.
وبهذا ينتهي حديثنا عن جون لوك، بوصفه نموذجا لفلاسفة المذهب الواقعي الطبيعي أو العلمي.
وقبل أن ننتقل إلى التربية في ظل الفلسفة الواقعية بشكل عام، يجب أن نشير إلى أن المذهبين اللذين تناولناهما هما الأبرز، أعني الواقعية الكلاسيكية أو الدينية، والواقعية العلمية الطبيعية؛ ولكن هناك مذاهب أخرى للفلسفة الواقعية، منها مثلا الواقعية النقدية، والواقعية الوجدانية، والواقعية التحليلية.. الخ.
والزبدة أنه ظهر لنا الكثير عن الفلسفة الواقعية ومذاهبها من خلال كل ما سبق، ومن خلال ما كتبناه عن عدد من مذاهبها البارزة وفلاسفتها الكبار، وبقي أن نشير -بطريقة جامعة- إلى أبرز (مبادئ الفلسفة الواقعية) خاصة ما يلامس (التطبيقات التربوية).
فمن أجمل ما يستحق التناول مثلا لا حصرا، أن الفلاسفة الواقعيين يؤكدون دائمًا من الناحية التربوية على أهمية العمل على تكيف الإنسان وانسجامه مع بيئته، وهذا الانسجام مع البيئة لا يمكن أن يتحقق بشكل ممتاز في نظرهم إلا إذا فهم الإنسان عالمه فهمًا مميزاً أيضًا، ومن هنا يتبنى الواقعيون الفكرة القائلة: إن أساس التربية هو المادة الدراسية التي يجب أن توضع أمام الطلاب بشكل يجعلهم قادرين على استيعاب العالم المادي الذي يعيشون فيه.
ولذلك يكرر الفلاسفة الواقعيون دائمًا بعدة صياغات، أن التلميذ لكي يصبح إنسانًا متوازناً فكرياً ومتوافقا مع بيئته المادية والاجتماعية، لابد أن ننميه تنمية شاملة، بتعزيز كل الجوانب الإيجابية العقلية والبدنية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية فيه.
فتنشئة الأطفال مثلا عند الواقعيين، لابد فيها أن تحقق قدرًا كبيرًا من التوافق والتناغم بين الطفل والقوانين الطبيعية؛ ولذلك يعلمون الأطفال احترام البيئة والناس في مجتمعاتهم، ودقة المشاهدة ، وقوة الملاحظة، وحدة التفكير الاستنتاجي خاصة، والمنهج العلمي الجيد، والحقائق الكبرى المعروفة، والقوانين الرئيسية في الطبيعة والبيئة الاجتماعية المحيطة بهم...الخ
ومن خلال الفقرتين السابقتين نفهم أن الواقعيين يعارضون المناهج الدراسية المثالية المعقدة، التي تركز على الحفظ والتلقين من الكتب المتوارثة، التي تبالغ في الاهتمام بها المدرسة المثالية كما قلنا في بداية هذه السلسلة.. فالواقعيون يتجهون اتجاها معاكسًا للمثاليين ومختلفاً عنهم، حيث يهتمون بوقائع الحياة قبل أيّ شيء نظري مثالي، ومن هنا يتحمّسون جدًا في الحث على ضرورة أن تكون المادة الدراسية هي الأساس والمرتكز في التربية، بحيث تجعل المادة الدراسية المتعلمين قادرين على التعرّف على العالم الذي يعيشون فيه عن قرب.
ولذلك وغيره تحذر الفلسفة الواقعية باستمرار من خطورة ممارسة غير المختصين المؤهلين لمهنة التعليم، خاصة في (تخطيط المناهج) ووضع المواد الدراسية، كما أن هذه الفلسفة تميل إلى استخدام أدوات وأجهزة التعليم المتقدمة التقنية والمبرمجة والتكنولوجية وما شابه ذلك في طرق التدريس، وتسلط الضوء على العلوم الطبيعية والاجتماعية التي تساهم بربط الطلاب بالواقع الاجتماعي، كالطب والهندسة واللغات والعلوم الطبيعية والتطبيقية والمهنية والحرفية المختلفة، مع اهتمام هذه الفلسفة أيضًا وبقوة بالترفيه عن المتعلمين والطلاب، باللعب والنشاطات المدرسية الثقافية والتدريبية البدنية والفنية والتجريبية الميدانية، كما تمتاز كثير من مناهجها غالبًا بالانتقال من السهل والأبسط إلى الصعب والأكثر تعقيدا.
ومن أهم المبادئ العامة لفلسفة التربية الواقعية غير ما ذكر، أنها فلسفة لا تعتقد بصحة وجود كثير من (النواحي الفطرية)، التي يرى كثير من فلاسفة المثالية أن الإنسان يرثها قبل ولادته وما شابه, وإنما تعتقد المدرسة الواقعية العكس، أي أن تأثر الإنسان بالبيئة الطبيعية والاجتماعية أكثر سيطرة عليه من الأمور التي يعتقد المثاليون أنها فطرية وضميرية ووراثية وما شابه.
والفرد عند الواقعيين دائمًا هو أساس المجتمع, ومن هنا اهتموا كثيرًا بموضوع (حريات الأفراد)، واشترطوا لتحققها السليم شروطاً حثوا على تطبيقها في المجتمعات، وعلى رأسها نيل الأفراد جميع الامتيازات والحقوق الشخصية، ولذلك دأبوا وسعوا إلى تحجيم سلطة الحكومة ونفوذها وقمعها للفرد داخل أيِّ مجتمع، وأن توضع قوانين أخلاقية تمنع من إساءة الفرد لغيره، وتعزز فيه الأخلاق الحسنة، ومعيارها عند بعض الواقعيين هو أن الأخلاق الحسنة هي ما تعارف غالبية الناس على استحسانه، والعكس صحيح أيضًا في الأخلاق السيئة.
ويعتقد كثير من أصحاب التوجه الواقعي أن الأفضل أن تكون المدارس والجامعات والمعاهد الدراسية، بكل ما فيها من مناشط ودروس ومقررات (متصلة ومرتبطة بالمجتمع) ارتباطاً وطيدًا. فالواقعيون يعترضون على التربية المثالية التقليدية، التي تعتمد على أسلوب التلقين والتعويد وتحفيظ الطلاب المعلومات والمقررات متجاهلة (التجارب والمهارات) والمشاركات الاجتماعية؛ لأن هذه التربية لا تعتبر تربية صحيحة كاملة في نظرهم؛ لضعف ارتباطها بالنشاطات المجتمعية.
فالواضح أن الفلسفة الواقعية جمعتْ بين العمل على تنمية عقول الأفراد وتمرينها وفق أساسيات المنطق من ناحية، والعمل على العناية بأجساد الأفراد أيضًا من ناحية ثانية ليكون الإنسان فعالا في مجتمعه بسلامة عقله وصحة جسمه.
ولو سلطنا الضوء أكثر على ركني العملية التربوية والتعليمية الرئيسيين، المعلم والطالب، فسنجد الواقعيين ينظرون إلى المعلم باعتباره المخطط لكل سلوكيات الطلاب، ليس الظاهر منها فقط، أي ليس الظاهر من السلوكيات القولية والفعلية، بل يشمل هذا التخطيط ضرورة اهتمام المعلم بالسلوكيات الداخلية الباطنة، كالتفكير وكل ما يدخل في عمل العقل ومشاعر النفس، ولذلك ركزوا على ضرورة أن يكون المعلم دائمًا قدوة فاضلة في كل أقواله وأفعاله وطريقة تفكيره وكل سلوكياته، وأن يكون المعلم موضوعيًا دائما في طرحه أمام تلاميذه، وأن يقف مع الحق بكل صدق دائمًا بثبات ودون تردد، وأن يحرص –وهذه نقطة مهمة جدًا- على أن يجعل الطالب منتجًا للمعرفة وليس مستهلكا لها فحسب.
أما التلميذ فيجب عند الواقعيين وغيرهم أن يكون حسن السيرة والسلوك والمواظبة والانضباط داخل الفصل، وأن تعزز فيه المدرسة احترام النظام داخل المدرسة وخارجها، وطاعة المعلم دون تغييب لشخصيته واستقلاله الفكري الضروري.. ونختم بنقطة هامة، وهي أن الفلسفة الواقعية تهتم تربويًا بموضوع (تفاوت القدرات والمهارات) أكثر من اهتمام غيرها من المذاهب الفلسفية، والمعنى مثلا أنهم يحرصون على تقسيم التلاميذ وفق القدرات والمواهب والخصائص العقلية والفكرية والجسدية، وكل ما شابه مما يدخل في باب الفروقات بين البشر.
وائل القاسم - الرياض