من الأغاني المشهورة التي ارتبط لحنها بذكريات الصبا.. وكانت تقدم لنا سعادة ما ملفوفة بلحن حزين «يا حبيبي آنستنا .. بالسعادة والهناء لما شرفتو هنا» وغناها العملاقان طلال مداح ومحمد عبده، وقد غناها كثيرون كابتسام لطفي وكعبادي الجوهر.. نعم إن لقاء الأحبة هو من أعظم السعادات، ولكن ما الحب؟ وما اللقاء؟ وما السعادة. أهي البهجة النابعة من الداخل دون تشارك مع الآخر.. وماذا لو اكتشفت أن ذلك وهما؟ أهي في اللذة وإذا كانت في اللذة أهي في أثناء تحقق اللذة أو بعد الانتهاء من اللذة؟
لن أتحدث عن السعادة الآخروية فهي غيبية ميتافيزيقية ونسأل الله أن نكون من الذين سعدوا في الآخرة التي في نظري تتوقف على تحقيق السعادة في الحياة، ولكن هل السعادة في إيمان قد يكون مؤدلجاً ويعطي وهماً كوهم المخدر وهو يسبب الألم للذات والآخر، أو أطرح السؤال بصيغة أخرى: ما الإيمان الذي يحقق السعادة؟ أهو إيمان الذئب أم إيمان الحمل الرضيع؟
هل السعادة تنبع من الداخل فقط؟ ولكن لا داخل بدون خارج! إنها دوامة من الأسئلة قد لا تؤدي إلى السعادة بل إلى شقاء الأسئلة التي لا جواب لها وما أكثرها..
سأعرض لشيء عن السعادة من منظور فلسفي يتعلق بتحقق «المجتمع المدني» الذي قد يغلب على الظن أن الفلاسفة وخصوصاً الفلاسفة المسلمين لم يعطوه حقه من البحث، علماً أن أزهى عصور المسلمين تتجلى في الفترات التي اقترب الفيلسوف من الحاكم، وهي مجرد ومضات في ليل مدلهم من التأخر والتخلف والتأدلج الذي نتيجته الآن مشاهدة محسوسة على المستوى الحضاري والقيمي.
لقد كان اليونان ينظرون إلى الأخلاق من خلال ما تجلبه من سعادة، فالأخلاق الفاضلة لديهم تعني «أفعل هذا لأنه يؤدي إلى سعادتك»، ولكن ما هي السعادة إذا كانت الحياة تنقسم ثلاثة أقسام رئيسة هي: الحياة الحسية، والحياة السياسية، والحياة النظرية التي هي حياة النظر والتأمل والتفكير الخالص، فهنالك ثلاث سعادات لا سعادة واحدة وهي: السعادة بالمعنى الحسي، والسعادة بالمعنى السياسي والسعادة بالمعنى النظري... ويرى أرسطو أن السعادة ليست إلا اللذة، ولكن أية لذة؟ إنها اللذة الناشئة من تحصيل الإنسان كمال الفعل المقوم لطبيعته، ولكن نظرته إلى اللذة تختلف عن ما يتبادر إلى الذهن لأنه ينظر إليها نظرة سكونية باعتبارها كمالاً، أي تحققاً بالفعل ولكنه لا ينظر إلى تلك اللذة نظرة مبسطة بل يجعلها تقترب كثيراً من الخير الإفلاطوني الذي هو عال عن الموضوعات، بل هو يجعلها الخير الأسمى كما يقول عبدالرحمن بدوي، وهي عنده «تحصيل الكمال الممكن بالنسبة إلى الكائن أو إدراك الملائم بما هو ملائم»، وأضاف بعد ذلك أن اللذة تكون كالتاج الذي يعلو هذا النشاط، أي أنها ستكون شيئاً مضافاً عالياً بالفعل على النشاط أو الفعل الذي هي تاجه، وإذا كانت اللذة خيراً أسمى فلا يمكن أن تتحقق حق التحقق إلا في الحياة النظرية... وهل تتحقق اللذة في أثناء أو فيما بعد؟ يرى أرسطو أن تحقيق الفعل غاية في ذاته؛ إذ هو كاللعب سواء بسواء لا يقصد منه إلى تحقيق غاية وإنما النشاط المبذول في اللعب هو الغاية من اللعب، إذن اللذة الكاملة هي تحقيق كمال الفعل وأكملها ما كان في الحياة النظرية، إنها تمثل سعادة من نوع خاص لا تتحصل لأي أحد، وهذا لا يعني أن أرسطو لا يرى أن تحصيل الملذات والثروة من السعادة بل كل ما يجلب لذة ما فهو سعادة وإن كانت اللذة الحسية في معناه المجرد الذي تتحول إليه قد تجعل من حدوث بعض الألم سعادة..، أما السعادة بالمعنى السياسي فلم يغفلها الفلاسفة من بحوثهم المستفيضة منذ سقراط وأفلاطون ومدينته الفاضلة وأرسطو وصولاً إلى كانت وهيجل ونيتشة والمدارس الفلسفية النقدية التي بدأت تبحث عن الفلسفة في نقد تطور المجتمع البشري وفي نقد الخطاب الذي يدور حول هذا التطور. ونحن نعلم أن السعادة مشاركة في اللذة وكما قال المعري:
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت في الخلد انفرادا
فلا نزلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
حتى في التأمل المعرفي وهي غاية الغايات في السعادة نستطيع القول إنه مشاركة من نوع خاص، ولن تتحقق مشاركة سعيدة إلا في مجتمع تتحق فيه السعادة، لذا فإن تحقيق السعادة السياسية هي مولد لكل السعادات الأخرى لارتباطها بالقوة والسلطة والقدرة على كمال الفعل، لذا كان الصراع أكثر ما يكون احتداماً حولها للوصول إما إلى السعادة وإما إلى الشقاء، ولكنها منوطة بترقي الإنساني المعرفي والقيمي فقط، ولذا تركها الأنبياء وتركتها الأديان لجهد الإنسان الذاتي. ويجرنا هذا إلى الحديث عن مفهوم المجتمع المدني بصفته مفهوماً فلسفياً قبل أن يكون مفهوماً سياسياً إجرائياً في الديمقراطية الغربية وفي معظم دول العالم دون استثناء .. وها هي بورما قلعة التخلف الأخيرة للديانة البوذية تنضم إلى الركب الإنساني التنظيمي للديمقراطية التي وصل إليها الإنسان الحديث بعد تفكير طويل وبعد مآس وفترات تاريخية شديدة الظلام...
والسؤال: هل مفهوم المجتمع المدني كمفهوم لا كمصطلح قد تم بحثه فلسفياً أو مقاربته أو الإشارة إلى ما قد يشبهه أو يؤدي وظيفته وخصوصاً عند الفلاسفة المسلمين، والجواب أن نعم، فبين يدي كتاب رائع عنوانه «بحثاً عن السعادة: الأفكار الاجتماعية السياسية في الفلسفة العربية الإسلامية»، وهو من تأليف المستشرق الروسي إلكسندر اغناتنكو، وقد ترجم في دار التقدم في موسكو 1990، وأظنه آخر كتاب أو من أواخر الكتب التي طبعتها هذه الدار قبل انهيار الاتحاد السوفيتي... وقد خلص إلى أن أولئك الفلاسفة المسلمين كانوا يتطلعون إلى مثال اجتماعي... وكان هذا المثال يتطلب.. تصفية النزاعات والتناحرات سواء منها المتعلقة بالاختلافات في الأديان والنحل أو المرتبطة بالفوارق في الأملاك والثروات، وكان يقدر للتناقضات أن تخلي مكانها لعلاقات التعاون والتعاضد في إطار كيان اجتماعي يسوده الوئام والوفاق هو المدينة المثلى أو الفاضلة. فالفارابي رائد البحث حول المدينة الفاضلة التي خطط لمدينته الطوباوية كل شاردة وواردة حتى شوارعها وطرقاتها، وقد جعل مهمة الحكام إسعاد الرعية، وذكر أن المحبة والرفق والتشجيع يجب أن تكون هي الأدوات الرئيسة في التعامل مع الرعية، لأن استعمالها يؤدي إلى الخضوع الطوعي الذي هو خير من الانقياد القسري، لأن الطوعية تميز حالة الإنسان الحر، أما العمل بناء على الأوامر فسمة العبيد. ويهمنا أنه يقسم أهل المدينة إلى أقسام، ففيها رؤساء ومرؤوسون وملوك وعوام، ويقسم الرؤساء على مراتب تتوزع على حسب الاختصاصات وجعل منهم مدبر المدينة والوزراء، وسواس البحر ورؤساء البر، وهؤلاء كلهم رسميون حكوميون، لذا فهو يضيف طافئتين أخريين هما «أصحاب الرأي والتدبير» و» أهل التجارب». وهذان الصنفان يبدو أنهما مستقلان عن بقية الأصناف من النص على استقلالهما في ترتيب القسمة، وما قد يفهم من طريقة التقسيم في تدبير المدينة الفاضلة وفيها إشارة واضحة إلى فئتي المتخصصين والمثقفين المهتمين بالشأن العام بلسان المصطلحات الحديثة أو ما قد يشبه المجتمع المدني بأسلوب أكثر حداثة.. ولو أردنا أن نعرف أكثر المدينة الفاضلة عند الفارابي فهي المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة. ويعتمد الفارابي كما يقول إلكسندر اغناتنكو على معيارين يتم على أساسهما تقسم المدن، أولاً: الموقف من معرفة السعادة الحقة، وثانياً: اموقف من العمل وفقاً لهذه المعرفة. ويمكن معرفة المدينة الفاضلة لدى الفارابي بمضادات المدينة الفاضلة، وهي المدينة الجاهلية، والمدينة الفاسقة، والمدينة الضالة. ويقسم الفارابي المدينة الجاهلية أنواعاً منها: المدينة الضرورية، والمدينة البدالة، ومدينة الخسة، ومدينة الكرامة، ومدينة التغلب، والمدينة الجماعية. والمدينة الفاضلة ليست مجرد اجتماع الناس الذين قصدهم التعاون على ما هو ضروري لقوام الأبدان كما هو حال المدينة الضرورية، وليس القصد التعاون على بلوغ اليسار والثروة كفاية في الحياة كما هو شأن المدينة البدالة، ولا يجتمع أهلها بقصد التمتع بالملذات والمشروب والمنكوح كما هو حال مدينة الخسة، ولا بقصد اشتهار أهلها بالأبهة والعظمة كما هو مقصود مدينة الكرامة. والمدينة الفاضلة لا تهدف إلى قهر غيرها واستعباد أهلها كما هو قصد مدينة التغلب، كما أن المدينة الفاضلة ليست اجتماعاً فوضوياً لا رئاسة ولا تعاون فيها كما هي المدينة الجماعية سادس أنواع المدينة الجاهلة أو الجاهلية، وليست بعد ذلك المدينة الفاضلة مدينة فاسقة يعرف أهلها مبادئ الموجودات، ويتصورون ما هي السعادة الحقة ولكنهم في سلوكهم يسلكون سلوك أهل المدن الجاهلة. وليست المدينة الفاضلة قائمة على تصورات باطلة ويتصرف أهلها وفقاً لهذه التصورات فلا يصلون إلى السعادة أبداً، وذلك شأن المدينة الضالة.
إذن يمكن أن نفهم أن المجتمع المدني هو مفهوم متحقق في مدينة الفارابي الفاضلة في تقسيمة لفئة الرؤساء، ولكن ما يمنع أن نجعلهما صراحة في المفهوم المتحصل للمجتمع المدني بصيغته الحديثة هو افتقاده لأمرين: الأول هو السماح الطوعي من قبل الدولة بوجود مؤسسة مدنية مستقلة تعارضها أو تراقبها، والأمر الآخر افتقاد مفهوم المؤسسية ذاته.. ولكن ما المدينة الفاضلة عند الفارابي، وهل يمكن أن تتحقق بعد كل هذه المضادات التي ذكرها لتلك المدينة؟
د. جمعان بن عبدالكريم - الباحة