قبل نصف قرن تقريباً كانت المؤسسة التربوية أكثر حداثة مما هي عليه الآن.لم تكن المباني راقية، ولا الميزانيات ضخمة، لكن العقليات أكثر وعياً بأهداف التربية، ورعاية مواهب أبنائها، والقدرة على تطويرها وإثرائها في كل المجالات الثقافية والفنية والرياضية والإذاعية... والمسرحية.
كان يقود المدارس رموز في التربية لا تغيب أسماؤهم إلى اليوم، وهي حقول للمواهب يشهد على ذلك من تخرج فيها و المذكرات التي كتبها تربويون ومثقفون صنعتهم تلك الفترة، وعززت مواهبهم وحضورهم.
عرفت التربية حينها مثقفاً وقيادياً لم ينل حقه، ولم تدون سيرته وإسهاماته بشكل متكامل هو الأستاذ حسن عبدالله آل الشيخ الذي يدين له كثيرون بصناعة علامات فارقة في حياتهم، ومن هؤلاء الفنان التشكيلي الشهير والتربوي أحمد فلمبان الذي أصدر قبل سنوات كتابه «ذاكرة على السطح» فكان وثيقة مهمة في تاريخ التربية والثقافة والفنون وتحولاتها.
نشأ أحمد فلمبان وترعرع في مكة المكرمة ومدارسها، وتحت ظل رعاية تربوية فريدة من الأستاذ مصطفى عطار مدير تعليم مكة آنذاك، وبموافقة من الأستاذ آل الشيخ غادر في نهاية سبعينات القرن الفائت إلى إيطاليا برفقة زملاء آخرين لدراسة الفن التشكيلي.. كانت إحدى البعثات التي يقف خلفها قياديون يمتلكون وعياً برسالة الفن ودور الفنان وطرق تأهيله والقيم التي سيغرسها في مسار التنمية الثقافية بشكل عام.
عاد فلمبان من رحلة ثرية ليكون أحد الفاعلين في المؤسسة التربوية وصانعي المشهد الفني مؤمناً بأهدافه متمكناً من أدواته مقدماً أعماله بعيداً عن التقليدية والتجميل النمطي مستثمراً ارتباطه الوثيق بمراكز الفن العالمي وثراء الرؤية التي طورتها لديه عاصمة الجمال «روما» فأتت أعماله قريبة من هموم الناس، وتقلبات حياتهم، راصداً بانطباعية خاصة وعمق لوني معاناة متعددة الجوانب مبرهناً على رسالة الفنان في عالم لا يخلو من الظلم، وتتوزع في زواياه المآسي، وتتلهى الآلة اليومية به.
وعلى ضفة أخرى حرص على تعميق العمل المؤسسي فأصدر كتباً موسوعية عن الفن التشكيلي ورموزه، وأنشأ قاعدة بيانات ضخمة عن الفنانين تغافلت عنها جمعيات الثقافة والفنون، وكان حلمه أن تصدر ورقياً وإلكترونياً، وهي ركيزة مهمة للعمل الجاد والتواصل بين الفنانين ومؤسساتهم وسند علمي للدارسين.. أنجز هذه القاعدة منفرداً، وقدم درساً لقطاعات مشغولة بالصراعات و»تطيير الوعود» كما جرت تقاليدها!
أخلص فلمبان لفنه كثيراً، وحقق تفوقاً في العواصم العالمية، وحصد عدة جوائز وأوسمة عالية من الحكومة الإيطالية تقديراً لدوره ورسالته الحضارية، وكان يعود من رحلاته السنوية محملاً بالذكريات الجميلة، وتنتظره هنا أشكال أخرى من التجاهل والمعاناة، ولم يكن آخرها ما لقيه بعد وعكة صحية مؤلمة داهمته خارج البلاد، وعاد مستنداً إلى عكازه و»بعض الوفاء» وبالقرب أنواع متعددة من التناسي قدمتها مؤسسات الثقافة التي أسدى إليها كثيراً من وقته وخبراته وإبداعه فهو فنان مثقف غيور على مجاله تصدى بدأب لعبث المتاجرين بالفن التشكيلي والدخلاء والعاملين وفق «تقاليد الشلة» و «الاقطاعيات» فكتب في ذلك كثيراً دون خشية أو وجل، منتصراً لقيم الفن ورسالته.
قبل وعكته الصحية كان سنداً لجمعية الثقافة والفنون بجدة وعزف على العود في أمسياتها الثقافية لدعم الشباب؛ وهذا جانب لا يعرفه كثيرون عن أحمد فلمبان الخبير بآلات «العود» و»الكمان» و»القانون» و»التشيلو»، ويعزف عليها بروح فنان نقي صادق وحميم لا يليق أن تمنحه قطاعات الثقافة والفن جحودها وتغافلها فهو ابنها الوفي الذي يجب عليها تكريمه ورد الجميل إليه، وإن كان محدوداً.
محمد المنقري - الرياض