سطّرت يد طه حسين عنوان كتابه (في الشعر الجاهلي) في بداية القرن التاسع عشر كدراسة أدبية نقدية لشعر ما قبل الإسلام، فجاءت ردة فعل المثقف العربي متباينة بين مؤيّد ومعارض لآرائه، واستمر تأثير هذا الكتاب على تلك الفترة التاريخية من تاريخنا فصبت اللعنة على تلك الحقبة الزمانية وما قبلها وتجاهل العلماء ذلك التاريخ الثري ولم ينل حقه من البحث والتحري إلا من بعض المحاولات الخجولة التي كان يغلب عليها نقل آراء الإخباريين كما ورد في كتبهم ولعل من أبرز تلك الاجتهادات هو سفر (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) لمؤلفه الدكتور جواد علي.
وقد حلم المثقف العربي بكشف القناع عن تاريخ الحضارات التي سكنت الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكتابة قصة حضارة الجزيرة العربية قبل الإسلام معتمدة على آراء علماء الآثار ونتيجة لاكتشافاتهم وليس بناءً على ما رواه الإخباريين من قصص، ولعل البرفيسور عبدالرحمن الأنصاري من أبرز هؤلاء العلماء وله محاولات متميزة في هذا المجال إلا أنها محاولات فردية وليست مؤسساتية واجتهد غيره من العلماء بمحاولات فردية أخرى ثم ظهر بصيص نور بإعلان عن إطلاق البعثات العالمية للتنقيب عن الآثار من قبل الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وشاركت بعثات علمية ألمانية في موقع تيماء الأثري وفرنسية في موقع الحجر الأثري في مدائن صالح والبعثة الأمريكية في موقع جرش الأثري جنوب المملكة وأخرى بريطانية وغيرها من دول العالم للتنقيب في مختلف أرجاء الجزيرة بمشاركة علماء سعوديين وهذه البعثات تمثّل قمة جبل الجليد فقط، وقد صدرت تقارير سنوية متتالية عن هذه البعثات، زيّنت بها أرفف موقع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني مشكورة على هذا المجهود الجبار.
وهذا الحدث المحلي والاكتشافات يشبه حدث عالمي وفتح علمي طبي عظيم (وإن كان المجال مختلف إلا أن الشاهد واحد) حدث في شهر إبريل من عام 2000م عندما تمكن عالم الكيمياء الحيوية الأمريكي مريغ فنتر من فك الشفرة الوراثية للإنسان، فعلى أهمية هذا الحدث العلمي الذي تصدر صفحات وكالات الأنباء العالمية في ذلك اليوم إلا أنها لا تعني شيئاً دون تفعيل هذه المعرفة من خلال كشف الدور الذي تقوم به هذه الشفرة الوراثية ومعرفة البروتين المنتج الذي يلعب دوراً مهماً في جسم الإنسان!
وبالفعل بدأ علماء الكيماء الحيوية في الاستفادة من هذه الكشوفات وتفعيلها ودراستها مما أدى إلى فهم ميكانيكية الأمراض والمساعدة في إنتاج العقار المقاوم لأمراض عديدة تصيب الجنس البشري. وأقرب تشبيه يوضح الفكرة هو حال الحروف العربية منفصلة! لا شك لا تعني شيئاً ولكن إذا تجمعت كونت كلمات ذات مدلول ومعنى محسوس.
ولكن لماذا هذا المثال العلمي الطبي مع موضوع تاريخي! إن التقارير وكشوف علماء الآثار في الجزيرة العربية وعلى أهميتها وانتشارها في الجزيرة العربية إلا أنها لا تعني شيئاً إذا لم يقم علماء الاختصاص من تاريخيين وأساتذة أكاديميين وعلماء آثار ومؤسسات متخصصة باستخلاص وربط هذه الاكتشافات ببعديها الزماني والمكاني للوصول إلى قصة رجل الجزيرة العربية الأول و كيف عاش على هذه الأرض؟ وماهي الحضارت التي سكنت الجزيرة؟ وكيف تفاعلت مع بعضها؟ وبهذا يكتب رجال الجزيرة العربية تاريخهم بأيديهم بناءً على مكتشفاتهم في وطنهم.
هل حان الوقت لتصحيح تاريخنا مستندين على مكتشفاتنا وليس بناء على قصص الإخباريين!وهل حان الوقت لوجود ذراع ثقافية للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني لتكمل إنجازها وتترجم مكتشفاتنا الأثرية لنستفيد منها كما استفاد أطباء العالم من فك الشفرة الوراثية!
د.الوليد عبدالله العيدان - الرياض