هل التحول إلى الصراع الشعوبي العالمي هو نفي للصراع الطبقي؟ وهل كان تقدم الصراع الشعوبي واحتلاله الصدارة هو طفرة وراثية أم غفلة تاريخية؟ وإذا كان التحول منطقياً فهل هو (حتمية تاريخية) أم حتمية التطور؟
الإجابة عن هذه الأسئلة الملحّة وغيرها يتطلب التجرّد من الخطاب السياسي السابق والعودة إلى التجربة المعرفية المتراكمة، ثم الخروج بتصور أولي لما يجري في المرحلة الانتقالية، التي يمر بها المجتمع البشري حالياً.
أولاً - المسار:
أثبتت الدراسات الأرخيولوجية (علم الآثار) أن أقدم نشاط بشري زراعي حضاري اكتشِف حتى الآن هو في العراق أو وادي الرافدين.
يقول فراس السواح في كتابه (تاريخ السومرية والأكادية، البابلية - الآشورية) {ابتدأ النشاط البشري الملموس في حدود (60 - 100) ألف سنة قبل الميلاد، حيث ظهرت آثار الجماعات الأولى من إِنسان (نيانتردال) في منطقة الرطبة وحوض الموصل وكهف شنايدر. وعبر العصور الثلاثة التي اصطلح عليها المؤرخون (العصر الحجري القديم والأوسط والحديث) تطور نشاط الإِنسان الأول في العراق وبدأ انتقاله التاريخي من الالتقاط والصيد إلى الزراعة والتدجين وصناعة بعض الأدوات الضرورية. وفي العقدين الأخيرين من الألف العاشر قبل الميلاد ظهرت القرى الزراعية التي كشفت طبقاتها الأولى عن نشاط زراعي حيواني منتظم وكشفت عن استقرار اجتماعي}.
هذا الاكتشاف العظيم لعلم الآثار يشير إلى دلالة واضحة، وهي أن البناء الحضاري له تاريخ محدد، ولم يتم إلا بالتحول إلى نمط اقتصادي مختلف عن النمط القبلي القديم، الذي اعتمد على ما تجود به الطبيعة من صيد وثمار.
علم الاجتماع يؤكد أن تغير النمط الاقتصادي يؤدي إلى تغير العلاقات الاجتماعية وهذا ما حدث بالفعل إبّان تلك المرحلة، حيث انتقل المجتمع من الوضع المسطّح إلى الشكل الهرمي.
كان الصيد وجمع الثمار يؤمن الغذاء اليومي للجميع بالتساوي، فلا يوجد من يملك ومن لا يملك، أما بعد الزراعة والتدجين فأصبحت هناك محاصيل موسمية وغير موسمية تشكل فائضاً عن الحاجة اليومية وتحتاج إلى إشراف وتخزين وإعادة توزيع، وبالتالي لا بدّ من تقسيم العمل الذي أدَّى بدوره إلى تقسيم المجتمع البدائي إلى طبقتي المالكين والمنتجين.
إذن الصراع الطبقي نشأ بعد حوالي ستين إلى مائة ألف سنة من تطور الإِنسان البدائي، وهو نتيجة لذلك التطور، وعلى الرغم من أنه محرك التطور إلا أن ما ينشأ في مرحلة تاريخية ما، لا بدّ أن ينتهي في مرحلة لاحقة.
التاريخ البشري يؤكد من خلال هذا المشهد أن الحتمية للتطور وليس للصراع الطبقي، وأن آليات التطور متغيرة وليست ثابتة، وبالتالي يجب علينا نحن البشر اكتشافها والتعامل معها، وأن من يريد إيقاف التطور كأنما يحاول (إدخال الفيل في خرم إبرة)، والصراع الطبقي بدأ بالاضمحلال والصراع الشعوبي يتنامى ويحتل الصدارة، وهذا بالذات ما يميز مرحلتنا الانتقالية الحالية.
ثانيا - الحتمية:
الحتمية في قاموس المعاني هي (اسم) من حتمْ: وجوب ما لا مفر منه.
الحتمية الوحيدة التي أثبتها الديالكتيك الهيغلي هي الحركة في المادّة والمجتمع، وهي واضحة في المادّة، حيث حركة انتقال الأشياء من مكان لآخر هي (ميكانيكية)، وتحول المادّة إلى طاقة والعكس (فيزيائية)، وتفاعل غازات كالأوكسجين والهيدروجين لينتج سائلاً هو الماء هي حركة (كيميائية)، والموت والحياة الجديدة (ولادة) حركة بيولوجية...... وهكذا. أما الحركة الاجتماعية فهي ليست واضحة وتسمى (تطور).
الحركة الاجتماعية ما قبل الحضارة كانت تصاعدية مستقيمة، لكنها بطيئة قياساً بعصرنا وسريعة قياسا بالتراكم المتواضع للمعرفة في ذلك الوقت. وفي الفترة الممتدّة بين نشوء أول حضارة (تسعة آلاف سنة ق.م) حتى نشوء أول مجتمع عبودي متكامل المعالم (ألف عام ق.م تقريباً) حسب المعطيات الأرخيولوجية، أي حوالي ثمانية آلاف سنة كانت الحركة الاجتماعية غير منتظمة بسبب نشوء الحضارات واندثارها المتكرر، فهي تارةً مستقيمة وأخرى متموجة وثالثة متكسّرة ورابعة مشوهة، ولكن المحصلة العامة بقيت تصاعدية.
ابتداءً من العبودية حتى عصرنا الحالي كان ولا زال التطور يسير بشكل متموج، وذلك لأن الصراع الطبقي كآلية للتطور يحتل الصدارة بالنسبة للآليات الأخرى، والسؤال الملح الذي يطرح نفسه بقوة: هل الصراع الطبقي حتمي؟ وما هي الآليات الأخرى ونسبتها الفاعلة في التطور الاجتماعي؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لا بد من دراسة التطور في ظل صدارة الصراع الطبقي لآليات آلت طور وما هو مآله في مرحلتنا الحالية.
الرسم البياني التقريبي التالي يوضح مسار التطور الاجتماعي من العبودية حتى عصرنا الحالي، وكذلك مآله مستقبلاً:
كما نلاحظ أن مسار التطور (باللون الأزرق) يتكون من موجات صاعدة وأخرى هابطة عن المحصلة التصاعدية العامة (باللون الأحمر).
الموجات الصاعدة تمثل النهوض الجماهيري في الحركة الاجتماعية التي تؤدي إلى تغيير النظام القائم، أما الموجات الهابطة فتمثل الاحتقان الذي ينتج عن قمع التطور أو محاولة العودة به إلى الوراء.
الاحتقان هو تطور أيضاً لأنه تراكم للوعي الذي يتجسد الصراع الطبقي من خلاله، والذي يؤدي بدوره إلى الموجة الصاعدة التالية في النهاية، ولكن الموجات المتتالية ليست متساوية الطول، فالموجات الأحدث تستغرق زمناً أقل من السابقة لها، مما يشير إلى أن الموجات تتناقص في مسار يؤدي في نهاية المطاف إلى تحولها إلى خط مستقيم، أي الالتحام بالمحصلة.
ترجمة هذا المشهد البياني على أرض الواقع هي كالتالي:
أولا: فترات التحولات الاجتماعية ليست متساوية زمنياً، فحسب المكتشفات الارخيولوجية فترة ما قبل الحضارة استغرقت من مائة إلى ستين ألف سنة، وفترة ما بعد الحضارة حتى ذروة الملكية الخاصة (امتلاك الإِنسان للإِنسان) وتصدر الصراع الطبقي كآلية للحركة الاجتماعية استغرقت حوالي ثمانية آلاف عام، والعبودية استمرت من الألف الثالث قبل الميلاد تقريباً إلى ظهور الإسلام في نهاية القرن السادس بداية السابع الميلادي، أي حوالي ثلاثة آلاف وسبعمائة عام، والإقطاع من القرن السابع الميلادي حتى عصر النهضة، أي حوالي 1100 عام، والرأسمالية من عصر النهضة في القرنين الثامن والتاسع عشر وهي مستمرّة حتى يومنا هذا.
ثانيا: الصراع الطبقي لا يؤدي إلى التطور من تلقاء ذاته إنما من خلال الوعي الذي يجسد ذلك الصراع، أي أن قمع التطور أو تسريعه مرتبط بالوعي الذي يشير إلى دور الشخصية في التاريخ، فالتاريخ هو تسجيل للفعل الفردي والاجتماعي أما الوعي فهو محرك ذلك الفعل، وبالتالي لا يجوز القول إن هناك حتمية تاريخية لا مفر منها، إنما توجد حتمية للتطور لا مفر منها يسجلها التاريخ على شكل أحداث للفعل الإِنساني الواعي.
ثالثا: التموج ذاهب إلى اضمحلال واستعادة التطور المستقيم الصاعد كما كان قبل الحضارة، ولكن ليس بمعطيات إِنسان (النيانتردال) الذي استوطن حوض الموصل، إنما بمعطيات مجتمع إِنساني (معولم) لا يكون الارتباط بين عناصره من خلال العرف الاجتماعي، بل من خلال مؤسسات تضع المصلحة العامة هي الهدف مستخدمة كل ما توصلت إليه التكنولوجيا والتجربة الإِنسانية.
رابعا: آلية التطور ليست دائمة أو حتمية، فالصراع الطبقي ذاهب إلى الاضمحلال والبديل الحالي هو الصراع الشعوبي المعولم، أي بين شعوب الأرض قاطبة وحفنة من الشركات عابرات القارّات.
خامسا: تجسيد آليات الصراع في الواقع العملي يتم عبر الوعي الفردي والاجتماعي والتفاعل التصاعدي المستمر بينهما، فالصراع مع الطبيعة قبل الحضارة والصراع الطبقي بعدها أو الصراع الشعوبي حالياً لا يحدث أوتوماتيكياً، إنما عبر تراكم التجربة الإِنسانية وتنامي الوعي، أي أن التطور الذي لا مفرّ منه (الحتمي) لا يحدث إذا وضعت رأسك على الوسادة وتركت (الحتمية) تفعل مفعولها، إنما يحدث بالتضحيات الجسام.
... يتبع
عادل العلي - الرياض