الفصل الثاني: حوار عن «الأصولية» مع المفكر الهولندي يوهانس يانسن
(ماير): أفترض أن سيد قطب أصبح هو المرجع الرئيس لهذه الحركات أكثر من حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. وأشار حتى زميل ابن لادن، الظواهري، على ما يبدو لدور قطب الرئيس في كتابه الأخير الذي نشرته مؤخرا صحيفة عربية يومية في لندن.
(يانسن): أعتقد أن سيد قطب كان أول مؤلف عربي جادل بشكل مقنع في نظر كثير من الناس أن العالم العربي والإسلامي كان في الواقع يعيش في حالة من «الجاهلية». لا يبدو وصف «جاهلي» خطيرا جدا للآذان الغربية، لكنه كذلك لآذان المسلمين لأنه يعني عمليا الردة عن الإسلام وهو أمر عقابه الشرعي الإعدام. ولذلك إذا تمكنت أن تجادل بشكل مقنع حقا لجمهور المسلمين أن الحكومة «جاهلية»، فقد نجحت تقريبا في الحكم على الحكومة بالإعدام. وتتكرر نظريات سيد قطب مرارا وتكرارا في مختلف المطبوعات الأصولية المعاصرة.
(ماير): كما أكدتَ في دراستك عن كتاب الفريضة الغائبة بأن أهميته تكمن أولا في أنه يقدم مؤشرات واضحة حول الاتجاهات الفكرية للأصولية المصرية في ذلك الوقت، وأنه في الواقع كان النص الوحيد الذي كشف علنا بعض الأفكار التي كانت منتشرة سرا في مصر في السبعينيات والثمانينيات. ولكنك تشير أيضاً إلى أن تلك الأفكار قد تكون صيغت في وقت مبكر من الخمسينيات («الفريضة الغائبة»، ص 152). وبالطبع الأفكار لا تأتي من العدم، بل هي نتيجة للتخمر والشرح والصقل. أرجو أن تلخص ما حدث في مصر بين الخمسينيات وبداية الثمانينيات وأدى بالتالي لظهور «الفريضة الغائبة» واغتيال السادات؟
(يانسن): لم أكن موجودا في الخمسينيات ولكنني قرأت ما كُتب في تلك الأيام. أعتقد أن كتاب عبد القادر عودة، «الإسلام وأوضاعنا القانونية»، كان نوعا ما تمهيدا ومقدمة منطقية لبزوغ نظرية قطب بأن المجتمع «وثني» (جاهلي) لأنه لا يطبق الشريعة الإسلامية.
الحكومات في معظم الدول الإسلامية مكروهة للغاية والناس في حاجة إلى لغة للتعبير عن أنفسهم وبغضهم لحكوماتهم. واللغة الوحيدة التي كانت متوافرة هي لغة سيد قطب. إنها عمليا الرطانة الوحيدة التي يستطيعون عبرها التعبير بفعالية عن عدم رضاهم عن الحكومة. وحتى من وجهة نظر غربية أيضاً، فإنَّ هذه الحكومات لا تحكم شعوبها بشكل لائق. إنها تهمل القيام بعدد كبير من الأشياء الضرورية والناس غير راضين عن هذا وخطاب سيد قطب هو الوحيد الذي يقدم انتقادات متسقة لهذا الوضع. وينجذب الناس إليه تلقائيا مثل انجذاب العثة إلى شمعة. فلا مفر منه تقريبا.
الحكومة المصرية، خصوصاً في عهد السادات كانت تعلم بتلك المشاعر الدينية المكتومة. وكانوا يأملون مواجهتها من خلال تقديم الرئيس السادات بصفته «الرئيس المؤمن». لكن كان ذلك خطأ فادحا من ناحية التقنية الإعلانية والتسويقية للفكرة. شعار وصورة «الرئيس المؤمن» واجه الناس في كل زاويا الشوارع، والحكومة لم تفطن لحقيقة أنهم لا يحلمون بـ «رئيس مؤمن» لأنه من البدهي والمفروغ منه لديهم أن يكون الرئيس مؤمنا، ولكن ما أرادوه حقا هو أن يكون الرئيس «حاكما مسلما» أي مطبقا للشريعة.
ونتج عن الدعاية ضد طريقة التفكير الأصولية والدعاية التي حاولت التقليل من أهمية أفكار سيد قطب في ذهن المسلم العادي في منطقة الشرق الأوسط رد فعل عكسي جعلها أقوى بكثير. كما أن الحظر المفروض على الأحزاب الدينية حَفَّزَ الأحزاب غير الدينية لاستخدام الشعارات الدينية لجذب الناخبين الإسلاميين. ولكن نتج من هذا في ذهن الجمهور أن الدين هو أكثر أهمية في مجال السياسة مما كانوا يعتقدون سابقا. ولذلك فإنَّ الطريقة التي حوربت فيها الأصولية العنيفة من قبل السلطات ساعدت هذه الحركة على الانتشار بشكل مدهش ولا يصدق.
(ماير): دعنا نتحدث الآن عن «الفريضة الغائبة» أو «عقيدة قتلة السادات» كما وصفتها في العنوان لكتابك، التي قلتَ إنه حتى اغتيال السادات لم يكن النص معروف عمليا. ولكي يستفيد من لم تتح لهم الفرصة لقراءة كتابك، هل يمكن أن تشرح الظروف التي أدت لانتشار النص عالميا بعد أن أُعدم مؤلفه؟
(يانسن): لا أعرف متى كتب محمد عبد السلام فرج النص بالضبط، ربما في الربيع الذي سبق اغتيال السادات. طُبعت خمسمائة نسخة. وبدأت المجموعة بتوزيع وبيع الكتاب، ولكن بعد قليل أدركت المجموعة أن المباحث المصرية علمت عن وجوده وربما تصل إليهم عن طريق تتبع النسخ المباعة. ولذلك أحرقوا 450 نسخة. نجت خمسون نسخة فقط ومعظمها تم تجليده ووصلت بعضها - لحسن الحظ - لأشهر المكتبات العامة في العالم. وبعد اغتيال السادات، أضاف المدعي العام الكتاب كوثيقة في ملف القضية، وبالتالي حصل محامي المتهم أيضاً على نسخة منه. وقدم المحامي نسخته لصحيفة «الأحرار» المصرية التي طبعته بالكامل كملحق في ديسمبر 1981.
كنت أعمل في القاهرة وشاهدت الصحيفة بالصدفة على فرشة أرضية عند بائع الصحف وأنا أسير في الشارع. وبالطبع، اشتريتها على الفور، مثل جميع من رأوا ذلك. ونفدت جميع نسخ صحيفة «الأحرار» في غضون ساعات.
إذا حكم على شخص بالإعدام في مصر، فيجب أن يصادق المفتي على الحكم. وأصدر المفتي فتوى طويلة يشرح لماذا كان قتلة السادات مجرمون ويستحقون الإعدام. ولكي يثبت حجته وضع في حاشية الفتوى النص الكامل لـ «الفريضة الغائبة». ولذلك ظهر النص في سلسلة كبيرة من الصحف والمجلات المصرية والعربية، ولكن الملحق الذي احتوى الفتوى والحاشية نفد بصورة أسرع من الجريدة أو المجلة نفسها.
ثم وُجدت طبعة ثالثة ككتيب على الأرجح في الأردن أو إسرائيل: حيث نُقلت من نص الصحيفة، ولكن تم حذف عدد من الأشياء التي ربما كان نشرها حساسا في سياق مملكة إسلامية كالأردن.
لذلك، كان هناك في الأساس ثلاث طبعات صحفية فقط وطبعة عمان أو القدس هي المتاحة ككتاب: يمكنك الآن شراؤه في الواقع في أي مكتبة من مكتبات لندن العربية. ولكن من المستحيل تقريبا فهم هذه الطبعة لكثرة الأخطاء المطبعية. ولكن من الممكن إعادة بناء النص الأصلي ومعرفة ما يقوله بالضبط. أنا قمت بنفسي بإعادة بناء النص الأصلي وتحريره ثم ترجمته في كتابي المذكور.
(ماير): ماذا يمكنك أن تخبرنا عن السيرة الذاتية لمؤلفه والتأثيرات الفكرية والثقافية التي وقعت عليه وغيرها من أمور؟
(يانسن): لا نعرف الكثير عنه. كان محمد عبد السلام فرج (1954 - 1982) في الثامنة والعشرين عندما تم إعدامه، ولذلك فسيرته الذاتية قصيرة جدا. كان يعمل كفني (أو مهندس) كهرباء في جامعة القاهرة. كما كان أيضاً يعظ في مسجد في أحد أحياء القاهرة: وهناك خَطَّطَ لاغتيال السادات، الذي وقع في 6 أكتوبر 1981. لقد فطن فرج أنه إذا تردد كثيرا أو إذا بقيت الخطة في الدرج بدون تفعيل لأسابيع، فإنَّ احتمال حدوث تسريب وخيانة سيكون حتميا. ولذلك أسس مجموعة سرية بسرعة للتنفيذ خلال عشرة أيَّام ثم تصرفوا.
وكانوا قبل فترة قد قطعوا كل اتصال مع الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي كان مفتيا للجماعة الإسلامية والذي أفتى بأن الحاكم الذي لا يحكم وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية يُعدُّ مرتدا عن الإسلام. ألقي القبض على عبد الرحمن أيضاً في أعقاب اغتيال السادات. وتم التحقيق معه، ولكن تم إطلاق سراحه لمناوراته الفقهية الرائعة حيث أصر في التحقيق على أن الحاكم الذي لا يحكم وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية يجب أن يقتل، لكنه أضاف بمكر أنه قبل تطبيق الحكم عليه ينبغي أن يَتمَّ إبلاغه عن جرمه عبر مجلس من العلماء الخبراء في الشريعة الإسلامية. وقال عبد الرحمن بدهاء: «لا أعرف حقا إذا كان هذا المجلس قد أبلغ فعلا الرئيس السادات بأنه كان مذنبا بتهمة الردة، لذا لا أستطيع أن أعطي مصادقتي لاغتيال السادات، لكن أستطيع أن أعطي مصادقتي بشكل عام لاغتيال الحاكم الذي لا يتبع - باختياره - تعاليم الشريعة الإسلامية». وهكذا أنقذ رقبته ولكن مؤقتا، فكما تعلمون، إنه الآن مسجون في ولاية نيوجيرسي!!
(ماير): هل تعرف إن كان فرج قارئا متحمسا لسيد قطب؟ وهل كان عضوا في بعض الجماعات؟
(يانسن): لقد كان قارئا متحمسا للأعمال الكلاسيكية مثل الغزالي وابن تيمية وبالطبع قطب. إنه يستشهد بهؤلاء المؤلفين، ولكن دائما عبر الطبعات المتوفرة عموماً في القاهرة في ذلك الوقت. ولذلك لم يكن من الصعب جدا تحديد الاقتباسات. ولكنه لم يتتلمذ على عالم من عصره بقدر ما أعرف. لقد كان عصاميا من الناحية الفكرية.
وهذا ما يؤكد نوعا ما نظرية المفكر إرنست غلنر (*) الذي يفسر الأصولية الإسلامية باعتبارها تلوث الثقافة الإسلامية الكلاسيكية «العالية» بالثقافة الإسلامية «الشعبية». فالثقافة الكلاسيكية «العالية» في الإسلام فيها كل أنواع النظريات المتشددة جدا حول مختلف القضايا. لكن في «الواقع»، العالم مرتب بشكل مختلف، وجميع علماء المسلمين الذين يعملون على تلك القضايا يعرفون تلك «الحقيقة». ولذلك عندما تأخذ تلك النظريات الكلاسيكية العالية للدين الإسلامي، من عقائد إسلامية وقانون، خارج فصول الدراسة «الأكاديمية» (أي النظرية) إلى الشارع، عندها تواجه «مشكلة حقيقية وخطيرة»!! فرج نموذج مثالي للشخص الذي أخذ نصوص نظرية من التراث الكلاسيكي العالي ونزل ليطبقها بنفسه في الشارع بدون استيعاب جيد للواقع. ونحن نعرف النتيجة!!
(ماير): كما لاحظتَ في كتابك، يساعدنا نص فرج كثيرا لنفهم ما كان يدور في ذلك الوقت في عقول المتشددين. ما يدهشني عند قراءة كتابه هو التركيز على الجهاد كحل شامل لكل المشكلات الدنيوية. هل كان هناك تركيز مشابه في كتب علماء الدين الإسلامي في مصر في ذلك الوقت؟ أعتقد أن المسألة التي تجعل كتاب الفريضة الغائبة فريدا هي مقاربته للجهاد كحل سحري!!
(يانسن): أعتقد أن الجميع متفقون على أن الجهاد هو جزء من الإسلام، ليس هناك شك في ذلك. وعندما مات عبد الناصر (أو ربما زعيم آخر)، نُشر مقال طويل في صحيفة مصرية لرثاء المجاهد الأكبر. وعندما قتل السادات، تكررت هذه المقالة كلمة كلمة تقريبا، لكنهم تجنبوا الإشارة إلى «المجاهد»، لأن الجهاد كان له سمعة سيئة وكان أيضاً سبب الاغتيال في ذلك الوقت.
لكن الاختلاف ليس هل الجهاد جزء من الإسلام أم لا، ولكن ما هو الجهاد حقا!! الناس الذين يفسرون الجهاد بطريقة عنيفة لديهم عذر مقبول. فالأجيال الأولى من المسلمين لم يفهموا أي شيء آخر عن الجهاد سوى «شن الحرب». وهكذا احتلوا منطقة الشرق الأوسط من البرتغال إلى باكستان. التعاليم الإسلامية العالية الأخرى التي تؤكد أن الجهاد هو أيضاً نضال ضد شهوات النفس السيئة، دعنا نقول التفسير الصوفي للجهاد، ليس هو التفسير الذي اعتمد من قبل هؤلاء الجنود الأتقياء. لقد فهموا الجهاد بمعنى «شن الحرب» فقط.
يتبع
** ** **
هوامش المترجم:
(*) إرنست أندريه غلنر (1925 - 1995): مفكر وفيلسوف وأنثروبولوجي بريطاني من أصل تشيكي. أصدر أكثر من 20 كتابا في تخصصه وكرس حياته للنضال ضد ما سماه أنظمة الفكر المغلقة.. كالشيوعية.
ترجمة وتعليق: حمد العيسى - المغرب
Hamad.aleisa@gmail.com