المفهوم والبدايات
إذا أردنا أن نؤرّخ للحظة التي فتح الإنسان عينه على الحياة، سواء كان تأريخًا لاهوتيًا أم ناسوتيًا، لحظة هبوطه إلى الأرض بالتعبير القرآني، أو إلقائه في الوجود بتعبير هايدغر، نجد الإنسان في حالة من الوحشة، وحشة إزاء الحياة، إزاء الوجود، خوفٌ يتملكه بما يحيط به، فالوحشة وليدة الانفصال عن الأشياء، والجهل بها، لكن قانون البقاء يحكم بالزوال للضعيف، والبقاء للقوي، واختار الإنسان البقاء، فقارب الأشياء واتصل بها، وأخيرًا عرف الإنسان ما نسميه «المعرفة»، فالمعرفة مقاربة الأشياء والاتصال بها، فتحول الإنسان من طور الوحشة إلى طور الدهشة، من الخوف من الأشياء إلى الشغف بها.
ومن الناحية التقنية، قارب الإنسان الأشياء من خلال طريقتين، قاربها من خلال الاتحاد بها، وتسمى هذه المقاربة عند القدماء بـ»العلم الحضوري» أو «الذوق»، نجدها غالبًا عند المتصوفة وأهل الغنوص، وهذه المقاربة لا تفصح عن شيء اللهم إلا الصمت، لذلك يغلب عليها الطبع الفردي السكوني اللا تداولي.
أما المقاربة الأخرى، فهي مقاربة الأشياء لا بالاتحاد بها، بل بجعل مسافة بيننا وبينها، تلك المسافة هي صورة الأشياء، أو بلغة القدماء «التصور»، أو «العلم الحصولي»، وهو حصول صورة الشيء في الذهن، تلك الصورة عن الشيء إذ تمر بأطوار تاريخية، يتغير نحو وجودها، فتنتقل من الفردية إلى الجماعية، ومن الاستقرار إلى التداول، ومن الصمت إلى أن تتخلّق اللغة شيئًا فشيئًا، آذنة بقيام التواصل، وتكاتف الأفراد، فنشوء المجتمع، ثم بزوغ الحضارات؛ إذًا، ذلك التطوّر التاريخي للصورة في رحم اللغة، تكاثف أخيرًا خلقًا من بعد خلق إلى أن تولّد مفهومًا، وكما يقول العلي في تعريف المفهوم: هو تحول المفردة اللغوية إلى تاريخية، فالمفهوم ليس إلا نتاج الصيرورة التاريخية، والتطور الإنساني.
الإنسان، من معرفة الوجود إلى معرفة المعرفة:
ولكون الإنسان كائنا تطوّريًّا، ينتقل من طور إلى طور، من الحس إلى التجريد، ومن البساطة إلى التعقيد، تطورت أيضًا معرفته، فانتقل من معرفة الوجود، إلى معرفة المعرفة، من «الأنطولوجيا» إلى «الابستمولوجيا»، فبعد أن درس الوجود، ومكوناته ومراتبه وعلائقه، صار يدرس المعرفة، ماهيتها، وشروطها، ومكوناتها، وأدواتها، ولعل من اللحظات التاريخية البارزة في هذا الشأن هي اللحظات الغربية، فمن لحظة (ديكارت) ومنهج المعرفة، مرورًا بـ(كانط) والشروط التي تجعل المعرفة ممكنة، وليس انتهاءً بـ(فوكو) وعلاقة المعرفة بالسلطة، وهكذا.
إن تطور الإنسان، ليس إلا نتاجًا لصراعه مع الواقع، لذا فإن أي اشتغال الإنسان على المعرفة ليس من قبيل الاشتغال المجرد عن الواقع، بل له أساسه الاجتماعي/السياسي/الاقتصادي، فعندما يواجه الإنسان ما لا يتوقعه، كأن يتخلف في حين يفترض به أن تقدم، لابد له إذًا من أن يعرف أين الخلل؟ وأول أمرٍ يبدأ في التقصي عنه والنبش فيه، هو تصوراته عن الواقع، والنماذج التي يتنبأ من خلالها بالمستقبل، يقول العلي: «إن الهزات التي تصيب أي مجتمع، تدفعه بالضرورة إلى إعادة النظر في مفاهيمه، لأن إدراكه نفسه يتغير، ليصبح على الأقل متسائلاً عن الأسباب، وعلى الرغم من الأحداث المزلزلة التي مرت وتمر بعالمنا العربي..لم يتحرك هذا المجتمع، وحتى كثير من نخبه، إلى مراجعة هذه المفاهيم.. وهنا يأتي السؤال الجارح: لم هذا الركود في مفاهيمنا؟»، هنا يأتي الدور الأساس لهذا الكتاب: إعادة قراءة المفاهيم وتأصيلها.
نبذة عامة عن كتاب «نمو المفاهيم»:
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 2013م، من المركز الثقافي العربي بالتعاون مع النادي الأدبي بالرياض، وتصل صفحاته إلى ثلاث مئة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، جمعه أحمد العلي، الذي يقول مفتتحًا الكتاب: «يحتوي هذا الكتاب على المحاضرات والأوراق النقدية التي قدمها الأستاذ محمد العلي للساحة الثقافية منذ ثمانينيات القرن العشرين وحتى الآن».
وعناوين الأوراق التي تناولها الكتاب كالتالي:
نمو المفاهيم، الشك واليقين، ما هو التاريخ، مفهوم التراث، الفرق بين الرؤية والموقف، عن الثقافة ومكوناتها، ما هي التربية، القيم والسلوك اللغوي، المثقف والأيديولوجيا، الفرق بين اللغة والأسلوب، مفهوم الوطن، الحس الاجتماعي في الشعر العربي، حول الغموض الشعري، القراءة والشباب.
إن هذا الكتاب الذي يعيد قراءة المفاهيم وتأصيلها، يأتي استجابة لواقع العرب وتعاملهم مع المفاهيم، فالعرب يواجهون أزمة في التعامل مع المفاهيم، سواء وعوا بهذه الأزمة أم لا، أنقل نصًا للعلي من كتاب درس البحر، يعرض المشكلة بصورة أوضح وأفظع، يقول: «لكل مفهوم تطوره وفق شروط الحضارة التي يولد فيها حسب ما أوضحته حلقة الأمس، لهذا لابد من احترام تلك الشروط في استخدامنا اللغوي للمفهوم، وإلا جر دناه من مقوماته الذاتية، لكن ماذا يحدث في ساحة استخدامنا - نحن العرب - للمفاهيم، هل نحترم ميلادها وتطورها وشروطها، لا أعتقد ذلك، إن من يلقي نظرة، ولو كانت سريعة على كيفية استخدامنا للمفاهيم، يصاب بالذعر، إنه ليس استخدامًا بل مجزرة!؟». أظن أن التعبير بـ»المجزرة» يختصر لنا الكثير مما نريد قوله.
إذًا، يمكن قراءة كتاب نمو المفاهيم بوصفه دعوة لإعادة قراءة مفاهيمنا، وتوليفة المفاهيم المقروءة في هذا الكتاب، تمسّ مناطق الجرح في واقعنا، ذلك الجرح الذي ما فتئ يتسع، لكن ذلك لا يعني أن قراءة العلي داوت الجرح، فقراءة واحدة لا تكفي، بل لابد من خلق مجال تداولي تتحرك فيه تلك المفاهيم، فنشارك جميعًا في قراءتها ومقاربتها، لنخلق واقعًا جديدًا، ومستقبلاً أكثر ازدهارًا.
وهنا، ولمحورية قضية المفاهيم، سأتناول شقين يتعلقان بالمفاهيم، «العلي ومفهوم المفهوم»، « العلي وقراءة المفهوم».
العلي ومفهوم المفهوم
- التعريف:
يقول العلي: «المفهوم هو تحوّل المفردة اللغوية إلى تاريخية»، هذا التعريف يجعل الصيرورة من صميم كينونة المفهوم، فالمفهوم نتاج تراكمي عبر التاريخ، لكن يظل هذا التعريف مقصورًا على جانب واحد من جوانب المفهوم، وهو الجانب التكويني، فهذا التعريف يكشف لنا عن المفهوم في لحظاته الأولى، أثناء تخلّقه في رحم اللغة، لكنه لا يكشف عن ما بعد ولادة المفهوم، أي عن بنية المفهوم، والفضاءات التي يطل عليها، والمفاهيم الأخرى التي يشتبك معها، والحواضن الحضارية واللغوية والفكرية والإنسانية الأخرى التي ينتقل إليها بعد داخل إطار لغته الأم، وخارج إطار اللغة الأم من خلال الترجمة، لكن تبقى جذوة هذا التعريف كافية في لحظتنا التاريخية التي ابتدأنا فيها الاشتغال على مفاهيمنا.
جذر المفاهيم
يقول العلي: «أول اشتياقات الإنسان الروحية هو البحث عن المعنى، إن الوصول إلى معنى الوجود الإنساني وإلى معارفه وتصوراته وقيمه ومواقفه وحاجاته الروحية والبدنية، هو هدف الإنسان الأول.. لأنه بهذا الوصول إلى بلورة معنى الأشياء يصل إلى الاطمئنان الروحي ويتخلص من الخوف من كلام المجهول والتخبط في التفسير، لكن البحث عن المعنى لا يقف عند حد، بل يستمر صعودًا.. فكلما وصل الإنسان إلى معنى، يرميه.. ويتخذ موقفًا في ضوئه وتتولد تصورات جديدة تضيف إلى ذلك المعنى ما يزيده، أو حتى ينتقده.. ولما كان كل معنى يتعين فهمه في ضوء التاريخ، والحياة الفردية والجماعية، تنبع من كل ذلك ضرورات للإنسان، وتتولد المعاني الجديدة للمفاهيم..» إذًا، إبداع الإنسان للمفاهيم، كان من صميم حاجته الوجودية، وحركته التاريخية، وذلك ليوائم بين عالمه الداخلي والخارجي، باجتراح معنى للحياة، وهكذا إلى أن تطور الإنسان الأول، فانتقل المفهوم من فضاء الوجود والمعنى، إلى فضاء الفكر والمجتمع والحياة... فالمفهوم هنا ملازم لحياة الإنسان، والإنسان الأول، ليس فردًا، بل مجتمعًا، فالبيئة الاجتماعية هي التي تغذّي وتكون المفهوم، فالمفهوم حتى يتكون يحتاج لمناخ تداولي ولغوي، وذلك ما يوفره المجتمع.
................................................. يتبع
محمد سعيد الفرحان - كلية العلوم الطبية التطبيقية - جامعة الملك فيصل