صديقي أحمد سالم دخلت وإياه المعرض قبل الافتتاح وأهداني نسخة من كتابه ما بعد السلفية وقال مازحاً: (المهم أن نبقى أصحاباً بعد قراءة الكتاب). قلت بالطبع لكن هذا لا يمنع من مناقشة الكتاب والكاتب، ولا يمنع أن نبقى أصحاباً وإن اختلفنا على كتاب.
في هذه القراءة حاولت قدر الطاقة أن أخلع العباءة والعمامة واطرح الشيوخ والرموز من على متني وحاشيتي وأقبل خالي البال من المسبقات والأحكام الجاهزات، خصوصاً والشيخ أحمد من داخل البيت ومن غزية التي لم تغوِ، ويقترب من أن يكون صريخ إياد وكل هذا قبل القراءة المختصرة والمطالعة المبتسرة والتي لا ترتقي أن تكون مدخلاً لنقد هذا الجهد، وإنما هي فاتحة الباب وطليعة الكتَّاب ممن هم اعلم واحكم وطريقتهم أسلم، بل قد لا تعدو هذه الورقة أن تكون تعريفاً بالكتاب مع شيء من التعليق أو الإشارات النقدية فقط.
قبل الولوج في هذه القراءة أنبه على أني سأستخدم لفظة (الكاتب) وأحيل عليها واقصد منها أحمد سالم وعمرو البسيوني لأنهما أكدا في المقدمة أنهما مسؤولان مسؤولية مشتركة عن كل حرف في هذا الكتاب.
في المقدمة شرح الكاتب معنى السلف والسلفية وأحق الناس بهذا الوصف وهم أهل الحديث، وأنه لا ينبغي أن تتحول السلفية لنظرية معرفية خلواً من أعمال القلوب والجوارح والأخلاق الحميدة، وأكَّد على ألا نغفل في دراستنا للسلفية عن أن أقوال السلف تمر على أنظار المتبعين لها، ولا بد أن تجري العملية التأويلية على مستوى الفهم وحتى التطبيق عبر هذه الذوات القارئة، وعليه فلا داعي أن تصبح هذه القراءة صلبة فتظل صحتها وصلتها بالوحي وفعل الصحابة محل نظر وترجيح، فلا بد من إيقاظ السلفية المعاصرة من حالة السبات الوثوقي بحسب الكاتب بأن نقول إن السلفي المعاصر لم يحل مشكلة التنازع التأويلي للكتاب والسنة بأن يرد الناس لفهم السلف، والسبب في أن المشكلة لم تحل، وهذا يعود إلى أن ضبط أقوال السلف ومقاصدهم وأحوال هذه الأقوال اتفاقاً واختلافاً ثبوتاً ودلالة يمر بالضرورة عبر الذات المتلقية الناظرة في كلام السلف، وبالتالي فإنَّ أقوال السلف نفسها ستعاني نفس إشكالية التنازع التأويلي وهذا إن لم يكن في كل المسائل أو إن سلمت منه مسائل فلن تسلم منه أخرى، وبالتالي فإنَّ العمل النقدي سيكون لازم الحضور للنجاة من أخطاء الذوات المتلقية لأقوال السلف كي لا يتحول فهم هذه الذوات إلى عقيدة صلبة.
وأقول هذا الطرح لو لم يقيد بـ (وهذا إن لم يكن في كل المسائل أو إن سلمت منه مسائل فلن تسلم منه أخرى) لكان طرحاً خطيراً يطرق به الكاتب باب التشكيك في المنهج وطريقة التلقي، ولا نزيد على قولنا إن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلَّم - لم يسلما من التنازع التأويلي، ولدينا يقين بأن فهمهما يقيناً وحقاً لا تخلو منه أمة ولا زمن، بل والمذاهب أجمع والعقائد أجمع لا تسلم من هذا النزاع دينية كانت أم سياسية أم فكرية. وما الشيوعية والاشتراكية والحداثة وغيرها الكثير منا ببعيد، وأزعم أن السلفية هي إجماع الصحابة ومن تبعهم، ومن ناكف هذا المنهج في مسألة يكون بذلك خرق الإجماع، وهذا مما يدعونا للارتياب في هذه الأطروحة، اقصد الارتياب النقدي لا سوء الظن في الكاتب.
وعلى كلٍّ فالكتاب يحلل الحقب التاريخية المتسلفة كتجربة للعودة للأمر الأول (ما كنت عليه وأصحابي).
يطل الكاتب وفي المقدمة على المقصود بـ (الما بعد)، وأنه منذ منتصف الخمسينيات بدأ المشهد العالمي عموماً وفي كل المجالات ينزع نحو (الما بعد) وذلك بعد تآكل السرديات الكبرى بحسب ج. فرانسو ليوتار. فظهرت ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، وبطبيعة الحال فـ(الما بعد) لا يعني اختفاء الماضي أو سقوطه، أو ما يحلو للكاتب بتسميته انهيار القيم وبحسبه أيضاً فـ (الما بعد) يمكن أن نقرأه بوصفه تجليّاً جديداً وتفسيراً مختلفاً وليس سالباً، كما أنه لا يعني موت الذي خرج عليه إنما إمكانية جديدة لحياته ولتأويله في أفق لم يكن يفكر فيه، ولا أريد الوقوف على قول الكاتب أن السلفية متعددة بداخلها وأصولها، ولذلك جاءت مخرجاتها مختلفة من سلفية علمية لدعوية لجهادية لحركية، فالكاتب لا ينقصه معرفة واقع هذه السلفيات ولا تنقصه الأمثلة التاريخية على تحقق السلفية الشمولية، لكنه يتحدث عن السلفية المعاصرة، ومع ذلك فهناك سلفية شبه شمولية أو تحاول أن تكون كذلك، أقول هذا لأنه الواقع ولأن تقسيم السلفية محاولة محفوفة بالمخاطر على مستوى المنهج والقراءة أيضاً، حتى وإن وجد في أطراف السلفية - إن صحت التسمية - من يجتزئ هذا الكيان الذي يتأبّى على الاجتزاء، ولو تسمى الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً أنهم سلفية فطريقة السلف من فعلهم براء.
في الفصل الأول تناول المصطلح والمفهوم، وأبرز ما في مقدمته أنه يرى شعارية مقولات من مثل وصف السلفية بأنها (كتاب وسنة بفهم سلف الأمة)، أو (كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف)، أو (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها). أقول وما الضير في الشعارية ولن يخلو مذهب وعقيدة أياً كانت من الشعار، والكاتب لا ينازع في هذا الواقع بل واحتياجه، بل يأخذ على بعض المتسلفة رفع الشعار والتغافل عن الفرق بينه وبين تمثلاته الواقعية.
وقد أتى في هذا الفصل على أصول وقواعد وخصائص واختيارات هذا المنهج.
تطرق بعد ذلك بفهم السلف وأكثر فيه النقل عن شيخ الإسلام بن تيمية وتقريره أن مذهب السلف لا يكون إلا حقاً، وأن فهم الصحابة مقدم على فهم غيرهم. لكن الغريب أن الكاتب يقول بشحة الكتابات في حقيقة فهم السلف من السلفيين أنفسهم مع كثرة ما كتبوه عن بيان منهجهم، ولا أظن أن سلفياً عالماً كان أم طالب علم إلا وهو يُبين معنى فهم السلف وضرورة الرجوع إليه في كل ما يكتب ويخطب ويقول، أما إن كان يقصد كتابة مطولة فهذه هي ميزة فهم السلف أنها بلا تكلف ولا تعمق بل سهلة المأخذ وعليه فشرح هذا الفهم لا يطول ولا يحتمل كتابات خاصة مطولة، ويؤاخذ الكاتب في هذا الباب بعض من ينتمون للسلفية عندما يضخمون ممارسة سلفية اجتهادية غير مجمع عليها، فتتحول عندهم إلى (منهج السلف) و(معتقد السلف) الذي يجب اتباعه ويوصم مخالفه بالابتداع والحيدة عن طريقة السلف.
الفصل الثاني عن تطور السلفية وموضوعه تحققات تاريخية للسلفية لأفراد وجماعات حاولوا التزام هذا المنهج وذلك عبر حقب معينة وفيه أبواب:
- القرون المفضلة وتطرق فيه لأساس معيارية جيل الصحابة في التصور السلفي وطريق معرفة اتفاق الصحابة وأيضاً أهل الأهواء هم من جملة التابعين وأتباعهم من حيث الحقبة الزمنية فكيف يتسق هذا مع المفهوم السلفي؟
الكاتب يطرح هذا التساؤل ويجيب بجواب السلفية أنفسهم في أن التحقيب الزمني ليس هو المعُيِّن لكون الرجل من التابعين وأتباعهم، وإنما المحدد الأساسي هو أن يكون بالفعل من أتباع الصحابة وأتباع أتباع الصحابة وليس مجرد وجوده في الحيّز التاريخي. ولا أدري ما فائدة هذا السؤال وماذا كشف هذا الجواب؟!
إلا أن كان الكاتب يفتح عيناً على القارئ الغربي أو العربي غير المهتم وصاحب الحصيلة لا أقول الضعيفة بل المعدومة.
- الجيل الرابع وبدء تأسيس معمار العقائد السلفية.
ويقصد بهم جيل الآخذين عن القرون المفضلة وهو الجيل الذي عاصر اكتمال تشكل معظم الفرق التي يراها السلفيون فرقاً بدعية، وهم الشافعي واحمد والثوري وابن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي والدارمي والبخاري والحميدي وبن راهوية، وقد ساهمت أحداث محنة خلق القرآن إلى حد كبير في صياغة هذا التكوين، وأحمد بلا شك هو رأس هذا الاتجاه، مما أدَّى بعد ذلك لمزج السلفية بالحنبلية، وإن كانت السلفية في الحنابلة نمط غالب، وهذا لا ينفي تسلف غيرهم أو تنكب بعضهم لهذا النمط. وقد طرح المؤلف بعض المسائل التي ساهمت في إشكاليات البحث العلمي المتعلقة بهذه المرحلة وهي:
- ما مدى دقة تمثيل هذا الجيل للصحابة والقرون المفضلة، وما موقف السلفية المعاصرة من دقة هذا التمثيل؟ بالطبع هي تراه تمثيلاً مطابقاً والكاتب ينازع في هذا بتعداد الأمثلة، ولا يغيب عنه أن هذا الجيل أخذ الإطار والطريقة في التعامل مع نصوص الصفات والتعامل مع المخالف، ولا يلزم أن ينص على ذلك بنصوص كثيرة عن كثير من الصحابة، وإلا لما كان لهذا الجيل فضل بدء تأسيس معمار العقائد السلفية، ولكانوا مجرد رجال في سلسلة سند ما ورد عن الصحابة مع تعليق على النصوص؟
ضرب الكاتب مثلاً بمسألة اللفظ وهي متفرعة عن مسألة الكلام التي هي أصل ومتفق عليه عندهم، ومع ذلك فلا تقوم مثل هذه المسائل المتفرعة عن أصول ثابتة وموافقة لما عليه الصحابة وتعاملهم مع مخالفها أن تشكل على مدى دقة تمثل الجيل الرابع لطريق الصحابة وهذا رأيي وللكاتب رأيه.
- الرياض
t.alsh3@hotmail.com
TALSH3# تويتر