عندما يرد ذكر اسم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن سليمان العثيمين رحمه الله فستجد أهل الكتب والمكتبات على مستوى العالم العربي والإسلامي يطيرون فرحاً بذكره ويلهجون بمعرفته ربما أكثر من بلده!!كيف لا وهو المحقق الأريب الذي أمضى ثلاثة أرباع عمره مُحققاً بين أرفف المكتبات وبين خزائن المخطوطات ينفض عنها غبار الزمن وقسوة الإهمال ليظهرها للعارفين والباحثين لا ليحقِّقُ مجداً شخصياً لاسمه بقدر شغفه العظيم بإخراج الكتاب،واكتشاف المخطوط لينتفع منها العلماء وطلبة العلم..
لقد رأيت شخصياً فرحته بالعثور على مخطوطٍ أو كتابٍ نادرٍ كفرحِ مَنْ وجد كنوز الجواهر والدرر بل أشد..وإذا أردت إسعاده رحمه الله فتكلّم عنده بمسألةٍ لغوية لاسيما في القرآن أو عن كتابٍ نادر ليروي لك كم عانى ليجده ثم كيف حقّقه ونشره!!هذه سعادته وأُنسه..حتى في حال اشتداد مرضه!!
يستمتع رحمه الله بمعرفة الناس ويُبادر بالسؤالِ عمن لا يعرفه!!كان مُتقناً لتاريخِ رجالِ المذاهبِ وطبقاتِهم لاسيما الحنابلة،وكذلك مُتفنناً في اللغةِ ومُتذوقاً للشعرِ وشواهدهِ..
إذا بدأ أبو سليمان بالحديثِ فإنك تتمنى أَلا يُقاطعه أحد لعذوبةِ حديثهِ وسلاستهِ..وإذا أردت أن تُخالفهُ فلتتسلح بالدليلِ والمعرفةِ للاختلاف معه حول رأيه!! رأيتُ مساءل تُطرح في مجلسه يُناقشها بكل أريحيةٍ مُنزلاً لأصحابها منازلهم مع مُزاحٍ كثيرٍ مع من يَثقُ بقربهِ منهم وتحمّلهم له..
أَهل مكةَ الذين عاصروهُ أدرى بما له من علمٍ ودرايةٍ فلما افتقدوهُ بعد تقاعدهِ تراهم كثيراً ما يزورونه عُلماؤهم وطُلابهم..فكانت عنيزة بأهلها مُمتنَّة لهذهِ الزياراتِ التي تَشهد نِقاشاً ثقافياً وعِلمياً في مجلس أبي سليمان رحمه الله..
استطاع قبل اشتداد مرضهِ بناءَ مبنى خاصٍ لمكتبتهِ التي شحنها إلى عُنيزة وعكف على ترتيبها وفهرستها ليستمتعَ بِها كحديقةٍ غنَّاء يتجول فيها بكرسيه المدولب شَارحاً لزائريهِ مِيزتها وواقِفاً على نوادرها المملوءة.. إنَّها بِحقٍ مَكتبةٌ تَنتظرُ مِن ورثتهِ ومُحبيه أن يستمر عطاؤُها للباحثينَ عن المعرفةِ والإطلاعِ بعد وفاتهِ كما في حياته رحمه الله..
مُنذ أن كان أبو سليمان العثيمين رحمه الله في بيتهِ في مكة إضافةً لعملهِ رئيس مركز البحث العلمي بالجامعة،كان ملاذاً للباحثين من جهاتِ الأرضِ يأتونَهُ ولربما باتوا عندهُ وأخذوا وقتهُ واستمرَّ هذا بعد انتقالهِ إِلى عُنيزة يستضيفهم ولم أَجده يوماً مُتبرماً من باحثٍ عن العلمِ والمعرفةِ أو مُلازماً لهُ يَقرأُ عليهِ رسالتهُ ليُصحِحَها لُهُ ويوجَّهه..ودالاً لهُ على كُتبٍ لبحثهِ ربما لم يعلم بها عن رسالتهِ وموضوع بحثه!!
رغم علمهِ ومكانتهِ العلميةِ لايبحث الدكتور عبد الرحمن العثيمين رحمه الله عن البهرجةِ ويُبغضُ النفاقَ بُغضاً شَديداً ويُحبُ بَساطةَ المظهر..حتى أَنَّ من يراهُ لأولِ وهلةٍ لا يعرفهُ حتى يتكلم رحمه الله لتظهر كنوز عقله وروعة فؤاده رحمه الله!!
قضى الدكتور عبد الرحمن رحمه الله نصف عُمره متنقلاً بين دول العالم ليس للنزهة ورؤية الشجر والنهر والآثارِ وتناولِ الثمرِ بل يَبدأ برنامجهُ من الصباحِ بالمكتباتِ إلى نهايةِ يومهِ ولربما ذهب مِراراً رائد المكتبة التي هو فيها لغداءٍ وأَقفل عليه بابها..حصل معه ذلك مِراراً في تُركيا ومصر والمغرب وغيرها فلا غُروَ أن يُثمر عُكوفهُ هذا عن اكتشافاتٍ عَظيمةٍ لِكُتبٍ نَادرةٍ ومًخطوطاتٍ مفقودةٍ عبر تاريخنا اكتشفها أبو سليمان وأظهرها للباحثين من تلك المخطوطات [بديع الأثر في علم النحو لابن الأثير] و[جواهر القرآن للأصبهاني المشهور بجامع العلوم]و[صلة الصلة بخط مؤلفها ابن الزبير الغرناطي وقد حققها تلميذه عبد السلام الهراس]وغيرها مما لا يحصى، ومكتبته تحتوي صوراً لمخطوطات فرائد وبعضها أصلي وقد تخلوا منها المكتبات..والمؤمل بأولادهِ وهم أهلٌ للخير بإذنِ اللهِ البحثُ عن حَلٍّ لمكتبتهِ رحمه الله بحيث تُزوّد الجامعات بصورٍ من مَخطوطاتها وتهيأتِ مكتبتهِ للباحثين بطريقةٍ يرونَها مناسبة فمثلهُ رحمه الله مرجعٌ كبيرٌ للكتابِ فلا غرابةَ أن يقول عنه بعد ذلك علامة الجزيرة حمد الجاسر:[أعلم الناس بالمخطوط والمطبوع]ويقول في مجلسه:[كلٌ يأتي ليستفيد مني إلا العثيمين فإني أستفيد منه].
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكنّ الرزيُة موتُ حُرٍّ يموتُ لموته بشر كثير
فَكأنما أحيا رحمه الله كُتباً لأمواتٍ فموته فقدٌ للمكتبةِ والكتابِ..والبحوثِ والمخططاتِ.. كان رحمه الله ذلك الإنسان النجدي بطبعهِ المتحفظ البسيط المبتعد عن بهرجةِ الإعلامِ وأضوائهِ.. الذي لم يُعطَ حقَّه من التكريمِ والإظهارِ لعلمهِ الغزيرِ ومعرفتهِ الكُبرى كغيرهِ ممن يهملهم الإعلام ولا يأبه بعلمهم..وإني أزعم أن مثله لو وجد في بلدانٍ غربية لحظي بجوائز العلم والأدب العالمية..ل كننا مع الأسف نهمل مثله في عوالمنا الإسلامية والعربية..وحين قامت عنيزة مسقط رأسه بتكريمه في مهرجان الثقافة الرابع بالجمعية الخيرية الصالحية في وقتٍ لم تأبه به جامعتُه التي خدمَها طول حياته العلمية بتأسيس مركزٍ متقدمٍ للبحث العلمي!!لقد رأيته سعيداً يوم التكريم وفرحاً بتقدير أمير المنطقة ووجهائها الذين جاؤوا لتكريمه..كما أنه كُرّم مؤخراً حين كان مريضاً آخر حياته في يوم اللغة العربية لجهوده التي قدمها للغة..وهنا صور نادرة له رحمه الله للقاءاته وزياراته ضمنتها هذا المقال!!
وقد استطاع عبد العزيز القرشي أن يقتنص منه مقابلة متلفزة بقناة دليل ثم بإبداعٍ كبير سطّر د/فهد السنيدي صفحات من حياته على قناة المجد في حين غابت عن مقابلته قنوات تزعم أنها روافد للمعرفة والثقافة!!إلا أنها لديها الوقت والمال لإظهار الغثاء،لقد كتب عنه أناسٌ متأخرون بعد وفاته وليتهم تقدموا وفاءً في حياته ليسعد برؤيتها رحمه الله،لقد رأيت مكانته في قلوب كثير من الرموز زاروه وكبار حضروا يوم جنازته من مثقفين وأكادميين أتوا من الإمارات وجدة والرياض مَنْ عرفه،وبعضهم سمع به فأتى إجلالاً للعلم..كانوا يحبسون دموعهم وهم يشاهدون قبراً ضمَّ هذا الفذّ رحمه الله..
كتب عنه الكثيرون مجمعين على وجوب إظهار علمه وثقافته وعدم إنزوائه وأهمية الاستفادة منه..مقالات صحفية وعبر وسائل التواصل أجمعت على محبة هذا العلم الذي في رأسه علمٌ موسوعي عن الكتب قل نظيره..داعين لاستمرار نهجه وبحثه وكتبه فمتى نرى استجابة لدعواتهم تلك كي لا يضيع هذا الرمز العلمي والثقافي كما ضاعت ذكرى غيره من الرموز!!رحمك الله أبا سليمان وعوّض الأمة والكتاب والمكتبة عن فقد وجعل بذلك ونشرك للعلم في ميزان حسناتك..
لتهنأ أبا سليمان العثيمين في قبرك بصلاة ودعوات المحبين الذين أتوك من كل مكانٍ لعلمك وقدرك وليشهدوا جنازتك فلعل شهادتهم ودعاءهم عاجل بشراك رحمك الله وغفر لك وجعل ما أصابك تكفيراً لسيئاتك وزيادة لحسناتك..اللهم ثبته وأكرم نزله..