كان أول عهدي بالشيخ أبي سليمان د. عبدالرحمن العثيمين -رحمه الله رحمة واسعة - حين عودته من رحلة علاجية، وكانت عقابيل المرض بيّنة ظاهرة؛ فهو مضطجع، لا يكاد يتحرك، ولكنّ ذهنه الوقاد حاضر، وذاكرته المتوهجة لا تكاد تُخطئ. استقبلنا أنا وصاحِبَي أحسن ما يُستقبل به الرجل. ومن حسن قسمتنا تلك الليلة أننا أتيناه ومجلسه خلو من الناس؛ ففرغ لنا، وخاض بنا فيما نحب أن يتحدث به. والشيخ يتميز بأمرين اثنين لا تخطئهما العين في أول لقاء يجمعك به: الأمر الأول: رفْع الكلفة، فأبو سليمان يضجّ من التزمت، والتوقّر المبالغ به، فهو يجري على طبيعته التي فطره الله عليها. والأمر الثاني: سبره كنه مجالسه، فإن كان من العُلماءِ أو الشداة من طلبة العلم انصرف له، وخصّه بحديثه، وأفاده، وتبسط معه، وترسل في الحديث، ويا طيب حديثه إذا كان منشرح الخاطر، طيّب النفس.. أما إن كان الزائر من هواة غشيان المجالس، وأهل التطفيل، لم يزد على احترامه وتقديره احترام المضيف لضيفه. وأحسب أنه لمس فينا ما يشجعه على الحديث؛ فكان مجلسنا تلك الليلة مجلس علم ومذاكرة. ولأن الشيخ ممن يرفعون الكُلف لم تخل ليلتنا تلك من بعض قوارصه - سقى الله قبره شآبيب رحمته - واستفدنا من علمه في المخطوطات، وحدثنا عن رجالات النحو كأبي علي الشلوبيني الأندلسي. وحان موعد انصرافنا فودعناه فقال لنا: غدًا تأتون. ولأن المجلس طاب لنا فقد زرناه من قابلٍ، لكننا لم نوفق إلى خلوة كليلتنا السالفة، فقد حلّ بالشيخ كثيف جاء في صورة المستفيد، وهو يختبر الشيخ في المخطوطات متأبطًا صور مخطوطات في هاتفه، فيسأل الشيخ عن كلمة فإن أجابه قال: أحسنت، أو صدقت، ثم يسأله عن تاريخ كتابة هذا المخطوط، ولعل الشيخ فطن لهذا المختبر فتبرّم منه، ولما خرج الرجل التفت إلينا أبو سليمان وأخبرنا بعدم معرفته بهذا الرجل، وأنه لم يدعه، وكأنه حسّ أننا صمتنا صمت القبور نقلب الطرف بينهما.
بعد ذلك تكررت زيارتي لأبي سليمان، فكنت أزوره إذا عدت من الرياض إلى القصيم. وكان من عادة أبي سليمان إذا اطمأن لشخص، ورأى فيه موضع صنيعة، قال له: تعال غدًا. لا يقول هذا إلا ليشعرك باهتمامه واحتفائه بك، ودخولك في زمرة (المرحب بهم).
أمضّه المرض وأتعبه، ومع هذا فذاكرته حاضرة متوهجة، لا تكاد تُخطئ. وكنّا عنده مرة فجرى الحديث عن رجل من المترجم لهم في كتب الحنابلة، فأصرّ الشيخ على رأيه، وأصر المناقش على رأيه - ولا تسل عن حلاوة الجدل مع أبي سليمان - فما كان منه إلا أن استدعى المرافق ليذهب به للمكتبة، فخف به إليها، ونحن نشفق على أبي سليمان أن يكون قد نسي أو وهم، فعاد بالكتاب مباشرة، وقال لمناقشه: اقرأ من صفحة كذا، فبدأ يقرأ وأبو سليمان يردد: (ايه)، (اللي بعده)، حتى وصل لموضع الشاهد، فقال أبو سليمان: (ايوه بمدّها مدّ المنتصر)، ثم مازحه بقوله: (لا عمرك تناقشْ)!
جرى هذا في مسألة دقيقة؛ لأن الأسماء متشابهة جدًّا، وهي مظنّة الوهم والزلل، ومع ذلك أصر - رحمة الله عليه - على رأيه ثقة بما عنده، ولك أن تتخيل ووجهه يتبلج سرورًا وجذلاً، وكأنك ترى في هذا الجذل تعب سنين، وتقصف ظهر طالما أكبّ على المخطوطات والكتب.
وكان إذا ناقش أحدهم ثم تناقض الرجل أو جاء بما يبطل أول كلام قال بلهجته المحببة: (اييه والله يا صدناه صيده)، ثم يورد عليه من الحجج ما لا قِبل له بها. على أن أبا سليمان رجّاع إلى الحق إذا تبين له هذا، فكم مرة قال: «أحسنت أو صدقت»، ونحو ذلك، مع ثقل ذلك على النفوس، على نحو ما صنع العلامة محمود شاكر إذ قال في هامش من هوامش طبقات فحول الشعراء: وكنت أخطأت في بيان ذلك في طبعتي السالفة من الطبقات، فجاءتني من الأرض المقدسة الطاهرة التي دنستها يهود رسالة رقيقة من: م. ي. قسطر، فدلني على الصواب الذي ذكرته آنفًا، فمن أمانة العلم أن أذكره شاكرًا كارهًا لهذا الذكر.
كان مزّاحًا، يحب ممازحة جلسائه، وربما مزح معه أحدهم، فإذا تبين كراهة ذلك في وجهه التفت إليه وقال: نمزح، أو مداعبة، ونحو ذلك مما يسل به سخائم النفوس!
إن مجالس العلماء نمط خاص، ويشهد الله أنني لم أر أكرم مجلسًا من مجلس أبي سليمان - رحمه الله - ومجلس شيخنا الشيخ محمد العبودي - أمد الله في عمره - وكرم هذه المجالس ليس فيما يقدّم فيها، بل لأنه يستوي فيها جميع من حضر، لا يُحجز هذا المكان لفلان، وذاك لعلان، بل تدخل المجلس فتقعد حيث انتهى بك، فالمضيف كريم، والأضياف كرام، والناس سواسية، يستوي في هذا الطالب والشيخ.
وكان مجلسه - رحمة الله عليه - مغرب كل يوم، يؤمه الناس من داخل القصيم وخارجها، وطلبة العلم يفدون إليه، فيسألونه عما يشكل عليهم في الرجال والمخطوطات، واستفاد منه طلبة الدراسات العليا في بحوثهم ودراساتهم، فلا يكاد يخلو مجلسه من سائل عن قراءة كلمة، أو سؤال عن مخطوطة ما، وأماكن وجودها، فكان مجلسه مجلس بذل لا يضن بشيء، ولا يبخل به، بل يفيد قدر طاقته.
يحلو لبعض المحققين أن يصف أهوال رحلاته في مختلف البلدان للبحث عن مخطوط ما، فيروي لك ما فُعل به وصنع، وما حال دون ذلك من العقبات، كل هذا ليبين لك مشقة العمل، وبعضهم ليدلّ على القارئ، ولكن الدكتور عبد الرحمن - رحمه الله - ليس من ذلك الصنف، بل يقول باغتباط: لم أجد مشقة في هذا؛ بل أموره ميسرة بفضل من الله. قال ذلك في مجالسه وفي لقاء تلفزيوني أُذيع قبل سبعة أشهر. وما نفع ذكر العقبات والأهوال ثم يظهر المخطوط مشوهًا مصحفًا، قد أبدلت الخوافي مكان القوادم؟!
هذا أبو سليمان، رجل جادٌّ، أخلص للعلم فلم يلتفت للدنيا، وزهد بالمناصب فلم يتقدم للترقيات الأكاديمية؛ بل يرى أن العلم لا تُطلب به الدنيا، ولم ينشغل بتجارة تلهيه عن الكتب والعلم، وإنما كما قال ابن دريد:
فنزهتنا واستراحتنا
تلاقي العيون ودرس الكتب
ختامًا، فقد قرأت للأخ تميم القاضي أن أبا سليمان قد كتب مذكراته، فجدير بذرية الشيخ، خاصة ملازمي أبي سليمان، كالدكتور فريد الزامل، أن يهتموا بهذه المذكرات، وأن يتوافروا على تنسيقها وترتيبها ثم نشرها، وكذلك بقية مشاريعه التي شرع فيها، كالأنساب لأبي محمد الرشاطي، وغيرها من كتبه وتحقيقاته.
رحمك الله يا أبا سليمان، وأسكنك فسيح جناته.
{إنا لله وإنا إليه راجعون}