رواية (وحشة النهار)، في عتبتها النصية الأولى، وهي العنوان، تكشف عن معاناة النفس في الزمان الجغرافي، الذي يكشف أيضاً عن غربتها المكانية؛ لأن الزمن لا يتحقق إلا في داخل المكان، وهو ما يطلق عليه النقد الحديث بالزمكانية؛ فهو زمان ضاق بصاحبه. فالوحشة دائماً ما تنسب لليل. فوحشة النهار تعني قمة الغربة الزمانية. فالنفس هنا يخالف زمانها زمان الآخرين؛ فهي منفصمة زمانياً؛ وهنا يأتي الإحساس بالغربة المكانية. فالبطل (سهيل) يتداعى في داخل النص الروائي بضمير المتكلم (الأنا)، حتى لحظاته الأخيرة. وهي شخصية ليست مريضة نفسياً، وإنما متأزمة من الزمان والمكان. فهي واعية بما في داخلها، وتداعيها يمثل حضوراً ذهنياً قوياً بما مر بها في الماضي وما تعيشه في الحاضر. وهو حاضر لا يمكن الفكاك منه؛ لأن ماضيها هو الجزء المهم في تكوينها النفسي والتربوي. ومن هنا يأتي الصراع النفسي، وتأتي قوة الموقف الدرامي للرواية. لقد استفادت الرواية من تقنيات سردية حديثة عدة، منها الاستفادة من فن السيرة الذاتية، وهذا ما يمكن أن يدرجها تحت مسمى رواية السيرة الذاتية، التي ليس بالضرورة أن تكون سيرة الكاتب الشخصية. فالبطل (سهيل) في رواية (وحشة النهار) إنما يسرد حياته الشخصية في تاريخها القديم والحديث. ومن هنا استفاد الكاتب بما يسمى بتقنية السينما. وقد حاول أن يخرق المعتاد، ويكتب المسكوت عنه في المجتمع الذي يعيش فيه، بحذر مقبول. وكذلك أتاح الكاتب لروايته أن تستفيد في خطابها الروائي بما يسمى لغة المذكرات، التي تصاحب تقنية كتابة السيرة الذاتية؛ فإن لغتها استرجاعية حكائية، تحكي تفاصيل الحياة اليومية للبطل، بغية الكشف عن أبعاده النفسية، بحيث تترك مجالات عدة للتحليل والتأويل، بحيث لا تستطع الأنا الكشف عنها بجمل مباشرة إلا باستخدام لغة المذكرات. فالأنا لها حدودها في السرد الروائي؛ فهي تحكي عن الكتب التي قرأها، والأطعمة التي يتناولها، والساعات، والأزمنة التي يرتاح لقدومها. يقول في صفحة (73): وتمر الأيام لتتسع الحلقات، وتشتبك مع دوائر أخرى خارج البيت بعد زيادة حصيلتين من الكتب، وتوسع الرف ليكون دولاباً منفرداً بين أثاث حجرتنا، أهتم به وأغلقه، وأحافظ عليه، حين وجودي في المنزل، وبعد الخروج منه.
ومن هذه اللغة الاسترجاعية نكتشف أن (سهيل) شخصية مثقفة. وهذا ما لا سبيل له إلا بذكر هذه التفاصيل الحياتية اليومية. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه عرض الحال (السرد العرضحالي)، دون الدخول في متاهات التقريرية. وقد تعدى الروائي خالد اليوسف مطب التقريرية بمقدرة سردية عالية. ومن التقنيات التي استفاد منها تقنية المنولوجات الداخلية الحالمة؛ فتحس بأن البطل سهيل في تداعياته ذو أفق جمالي رحب وواسع، لم يستوعبه الزمان ولا المكان الذي يعيش فيه. وهو يحلم في داخله بعالم مليء بالخير والجمال، الذي يجده في رحابة الصحراء الواسع واللانهائي. فهو ابن الصحراء الذي وُلد فيها، وتفتحت عيناه على جمالها، عندما خرج من بطن أمه صارخاً لأول مرة. وعيناه قد تفتحتا على هذا الأفق والفضاء الذي لا يوجد في المدينة؛ فقد ولدته أمه في رحلة صيد مع والده وهما في قلب الصحراء. وهو قد ولد بحواس متقدة قوية، يسكنه العطر، ويبقى قوياً في حاسته؛ لذلك فهو دائماً مسكوناً برائحة أمه والمرأة الأخرى. وفي أحلامه الليلية قادر على استدعاء المرأة التي يراها يقظة، وله المقدرة على التجسيد والتجريد في لوحاته، وأن يُرضي القوى الخفية التي تحيط بذوق الفنان الذي يحس بما يريده الآخرون منه. إن لغة الكاتب خالد اليوسف تحمل في داخلها محمول (الحلم والتخيل)؛ فبطله سهيل يحلم وهو مستيقظ، ويفيق وهو نائم حالم. يقول في صفحة (147): إن الأرواح الطاهرة تعيش معي مسالمة في واقع أراه أمامي لا يحتمل الأساطير، ويتأكد في الليل بخشوعهم لربهم وصلاتهم وعبادتهم التي تزيدني اطمئناناً لوجودهم.
والجن يحبون لوحاته، ويتأملونها كما يعتقد هو ذلك.
يرى الناقد المشهور م. فورست في كتابه (أركان القصة) أن هنالك سبعة أوجه أو زوايا، يمكن أن تشكل فنياً الجنس السردي عموماً في القصة أو الرواية، وهي تتمثل في الآتي: 1- الحكاية. 2 - الشخصيات. 3- الحبكة الروائية. 4 - الإغراق في الخيال. 5 - الشفافية. 6 - الإطار. 7 - النموذج والإيقاع. كل هذه الأوجه السبعة لا تتحقق إلا بما يسميه النقد الحديث بالفضاء الروائي. والمقصود به المكان. فللمكان الدور المهم في تشكيل العمل الروائي؛ فهو بنية أساسية من بنياته، كما يقول الأستاذ (محمد عبد الرحمن يونس) في دراسته القيمة عن الفضاء في الرواية اليمنية المعاصرة. فرواية (وحشة النهار) هي رواية المكان الممتد بين الصحراء والمدن التي حولها، بحكم القرب الجغرافي بين المدينة والصحراء في أغلب دول الخليج؛ وذلك ما يجعل المكان بإنسانه نموذجاً روائياً متفرداً، يختلف عن النماذج الروائية الأخرى في الدول الغربية. هذا الإنسان قد يحمل ثقافتين، إحداهما ثقافة الصحراء، والأخرى ثقافة المدينة الحديثة. وقد تُحدث هاتان الثقافتان صراعاً ونزاعاً نفسياً داخلياً، كما حدث لبطل رواية خالد اليوسف الشاب (سهيل)؛ فقد كان متنازعاً بين قيم الصحراء وقيم المدينة الجديدة. ورغم قرب المكانين من بعضهما (القرب الجغرافي) إلا أن البعد الثقافي والاجتماعي بينهما كان - ولا يزال - بعيداً وشاسعاً. وكما يقول الناقد الإنجليزي المشهور (رينيه ويليك) في كتابه الأشهر (نظرية الأدب): «إن بيت الإنسان يعتبر امتداداً له، فإذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان». والمكان في الرواية هو فضاء جمالي، مهمته تجسيد رؤى الكاتب وشخصياته. وقد كان الروائي خالد اليوسف ذكياً وهو يبدأ رواية (وحشة النهار) بالوصف الدقيق لبيت وغرفة بطله (سهيل). فمنذ البداية نكتشف غربة بطله النفسية في داخل المكان، حيث الوحشة من كل الأزمنة، صيفها وشتائها، فهو يعاني من الوحدة التي اختارها لنفسه. يقول واصفاً مسكنه: «بيت خرب, متهالك، متساقط الأسقف والجدران! مهجور منذ سنوات عشر، ولم يعد صالحاً للسكنى، إلا أن الروح النابضة تبقى في بيتنا الذي لا يتجاوز عمره الخمسين عاماً منذ وزعته شركة (أرامكو) علي منسوبيها». ومن خلال بنية المكان استطاعت رواية (وحشة النهار) أن تنقل، ومن داخل غرفة البطل، الصراع النفسي الذي يعيشه البطل (سهيل)، الذي كان كارهاً للمكان الذي يعيش فيه؛ فالصحراء بداخله، ولم تفارقه أبداً. وأول معااة نفسية قابلها البطل (سهيل) في بعده عن مكانه النفسي المفضل هو عدم استقراره، ومواصلة دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد استطاعت اللغة عند القاص والروائي خالد اليوسف أن تجسد الهم المأساوي للبطل، وأن تكشف غربته النفسية في الفضاء المكاني الذي يحيا ويعيش فيه، وهو يتمزق بين عالم يحلم به، ولا يستطع تحقيقه مكانياً. وقد استفاد من إمكانياته السردية في القصة القصيرة في توظيفها في فن التقاط اللحظة النفسية والمكانية والزمنية لحياة بطله الشخصية. فإن كان الروائي الليبي إبراهيم الكوني قد استفاد من المكان الصحراوي الأمازيقي في وطنه بالغرف من أساطيره وأعرافه ومعتقداته, فإن الروائي خالد اليوسف يستطيع أن يجسد الثقافة الصحراوية العربية روائياً، وهو قادر على ذلك.