يحيى توفيق حسن
207 صفحة من القطع الكبير
قد يكفي للضياع واد واحد يتسع لكل ضحاياه، ذلك أن الضياع واحد في مفهومه.. وفي مجراه.. الا أن شاعرنا له رأي آخر ربما يكون على صواب أكثر إذا جرى تصنيف الضياع مقترناً بأسبابه ومسبباته.. ضياع نسيب.. وضياع وجدانيات وضياع مناسبات.. وضياع ابتهالات.. عناوين رئيسة أربعة.. جزأت الديوان إلى فصول أربعة وما أحسب للمناسبات ضياع ولا للابتهالات ضياع.. لنقرأ بحثاً عن تلك الأودية التائهين في مجاريها بدأ شاعرنا بسمراء:
سمراء رقي للعليل الباكي
وترفقي بفتى مناه رضاك
ما نام منذ رآك ليلة عيده
وسقته من نبع الهوى عيناك
اتخادعين وتخلفي ميعاده
وتعذبين مدلها بهواك
لعله أول تائه في وادي الغرام.. إنه يستعطف.. يلتمس الرحمة:
يا منية القلب المعذب رحمة
بالمستجير من الهوى بحماك
ترضيه منك إشارة أو بسمة
أو همسة تشدو بها شفتاك
لا تهجري وتقوضي احلامه
وتحطمي آماله بجفاك
سأظل في محراب حبك ساكناً
متبتلاً مستسلماً لقضاك
الحب الضعيف لا يصنع رغيفا ناهيك عن حبه.. ومن خلجات قلب شاعرنا انتزع بعضنا من موقف سلوكي..
يعيب علي الناس صحبة ماجد
أبي بلوعات الهوى يتبعثر
فقلت لهم إن الوفاء سجيتي
وان ظل خل في الغواية يخطر
فكم من عفيف ضل بعد رشاده
وأوغل في غي يسر ويجهر
وكم من غوي تاب توبة نادم
يقوم بجوف الليل يدعو ويذكر
الهداية من الله.. من تاب وأناب كمن لا ذنب له..
الحيرة أيضاً ضياع يحتضنه الوادي أو الأودية كما يريد شاعرنا..
أنا قلب بائس في الحب احيا في احتراقي
املأ الدنيا حنيناً حين يضنيني اشتياقي
يا حبيبي كيف ننسى صفو أيام التلاقي
حين كنا نحرق الآهات في ليل العناق
لا تلمني إن شكوت اليوم همي وشجوني
فعذاب الشك أضناني وأشقتني ظنوني
آهات وتنهدات.. رجع صداها يملأ فضاء الوادي دون ان تظفر بجواب.. لأن الحب إذا هرب لا يعود..
(العيد والحب) وجدانيات تعتمل داخل نفسه يطرحها بوحه ويفضحها جرحه.. أن يقرأها وينشرها شعرا..
اليوم عيد فهل في العيد ألقاك
يا منية القلب ان العيد لقياك
الناس قد فرحوا بالعيد وابتهجوا
وبت تؤرقني في العيد ذكراك
من قال لك ان كل الناس غمرتهم الفرحة بعيدهم المتعارف عليه وقتياً؟ كثيرون مثلك يكابدون حبهم كما كابدت أنت:
ما أنت الا خيال هام في أفقي
هواه قلبي فعشت العمر اهواك
أراك في الدرب ترعاك العيون فلا
أدري من السحر هل في الأرض مسراك
ويقفلها بعملية قتل لذيذ يستطعمه المتيمون المعذبون بعذوباتهم..
كم تقتلين بلحظ العين أفئدة
يا طفلة الروح هل تبكين قتلاك
شاعرنا عاد إليه اشتياق بعد طول انتظار هو بالنسبة اليه أحر من الجمر:
عادني الشوق بعد طول سكوني
ودعتني للحب سود العيون
بعد عمر من الفراق التقينا
فأذبنا بالوصل ليل الشجون
للعيون لغة هي أفصح من لغة اليراع.. والفم..
أشواق متلاحقة في ظمأ لا ينطفىء.. وفي غرام لا ينكفىء.. لنستمع إلى بوحه:
أشواق صب ذاب في أشواقه
وحنين قلب من دجى أعماقه
أغلى أماني عمره ضاعت سدى
وسرى شقاء اليوم في أحداقه
طعنته في أحلى امانيه يداً
حرمته من خلانه ورفاقه
بقاء الحال من المحال بالأمس كان خطاب الوفاق واليوم شقاء الأحداق.. تلك هي طبيعة العشق.
يا لائمي لو كنت تعرف ما الهوى
لقضيت صفو العمر في محرابه
ولكنه لا يعرف.. ولا يريد أن يعرف هذه المرة.
كثيرا ما يخطر على بال شاعرنا الاضافة من خطواته التي لا تكاد تنتهي:
خطرت كسيف ساحر في خاطري
عذراء في رونق الشباب الناضر
سمراء يستهوي الفؤاد حياؤها
وعبيرها كشذى الورود العاطر
هي في دمي نبضاته هي في فمي
آهاته هي خفق قلبي الحائر
والنهاية رمادية كما عودنا شاعرنا البائس.. إن لم نقل اليائس من لعبة الحب:
كم عشت أحلم أن أعيش بقربها
حتى ذوى عودي وذاب تصابري
لنبحث مع فارس الرحلة مخرجا يهبه بعض الراحة في هذه الاستراحة.. علنا نجد.
(بعض الوفاء) عنوان يبشر بالخير:
لك يا فؤادي قد بذلت وفائي
أنت الدواء وانت مصدر دائي
يغري الهوى اجسادنا فيصدنا
ورع ويعصمنا كريم حياء
فتهيم في دنيا الهوى أرواحنا
في روعة تسمو على الإغراء
تصغي الروابي حين يحلو همسنا
وذرى النخيل تموج بالأصداء
ويداك تمسح في السكون على يدي
في لهفة مشبوبة وحياء
هل نقول معا وجدناها كما قال (ارخميدس) اخال هذا يكفي:
(عذاب) و(عتاب) و(عتب) عناوين تتقاطع في صورها وسيرها نجتازها كي نقف أمام اعتاب (ليلى)
أشاقتك من ليلى لحاظ فواتر
وثغركثغر الطفل غض وعاطر؟
ووجه عرفت السهد لما عرفته
وسلمت في ضعف وكنت تكابر؟
فيا أيها القلب المعنى بأضلعي
ظننتك لا تأسى لخل يسافر
فلما نأى الأحباب عنك بكيتهم
وأرق عيني من شجاك خواطر
وهيجت لي شوقاً وكنت على الهوى
قوياً فأضناني الأسى والتصابر
واقفل مقطوعته العشقية بهذه الأبيات المعبرة:
بليلى ومن في حسن ليلى فتنتني
ومن كان مثلي في الهوى لا يغامر
ورب ليال في هواك تتابعت
تنامين يا ليلى وقلبي ساهر
تقولين ماذنبي إذا أنت لم تنم
ألست الذي يهوى ففيم تحاور؟
نيابة عن شاعرنا وضعنا علامات الاستفهام المهملة.. ومن ليلى إلى الموال وهو يحدو ويشدو.
قال لي والدموع في عينيه
وظلال الأسى في وجنتيه
ودع كلام الوشاة عني فإني
فيك أهوى الهوى وأصبو إليه
ورماني بنظرة ذوبتني
وسقاني الرحيق من شفتيه
ليس بعد هذا من مزيد..
(ماذا جنينا) عنوان لبيتين اثنين كافيين:
ماذا جنينا من عنادك في الهوى
غير الأسى وشماتة الحساد
ضاعت أمانينا وضاع شبابنا
بين الخصام وبين طول بعاد
أودية الضياع تتسع لشكواك وأكثر:
يتجه إلى ساهر الليل يخاطبه لا أدري أم يعاقبه:
يا ساهر الليل من شوق ألمَّ به
هلم نطفىء حر الشوق بالقبل
هلم نفنى قبل أن تفنى ليالينا
ويذيل الورد من خديله يا أملي
هلم نسكب هذا الشوق في لجج
من الوصال بلا خوف ولا وجل
شطرك الأول من بيتك الثاني مختل الوزن يمكن تصويبه على النحو التالي هلم نفنى ولا تفنى لياليا.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد وخراش هنا (سعد) تكاثرت عليه العناوين الشارقة الغارقة بحبها..
فهذه (رسالة حب) إلى نجوى إلى (حنين) إلى ضيعتها) إلى (قسما بحبك) إلى وفاء إلى «إليها» نتجاوزها لنقف سوياً أمام كلام الناس ماذا يقولون.. بل ماذا يقول عنهم:
كلام الناس عنك اثار وجدي
وطول الشك فيك أطال سهدي
أحق ما يحدث عنك عندي؟
بأنك لا تصون قديم عهدي؟
وأنك قلت شيئاً عن هوانا
يكذب في الهوى ما كنت تبدي؟
وطاوعت الوشاة علي ظلما
لأنك حاقد يهوى التعدي؟
هنا تطرح تساؤلاتها.. وهنا نضيف إلى استفهامات علامات استفهام ناقصة وهنا نكمل معاً بيتها الأخير المرير:
ومن لي يا رفيق الروح أشكو
إليه من الجوى وعذاب وجدي
نهاية صعبة ومجهولة الخاتمة:
(قالت تعاتبني) (إلى سمراء) (حكاية) قصائد وجدانية نمر بها مرور الكرام متوقفين معه عند غربته:
غريب.. وهذا الليل يضرم في قلبي
وبعض صروف الدهر تلهو بذي الحزم
أحاول أن أحيا كريماً ومن يكن
غريباً يعش رهن المذلة والظلم
أعيش وأحزاني وحيداً مع النوى
اصارع أحداث الزمان على رغم
وأكتم في صدري هموماً تعاقبت
فشاب لها رأسي. وضاق بها كتم
ولكنها الاقدار ترمي بشوكها
إلي وتلقي بالورود إلى خصمي
كثيرون غيرك مروا بتلك التجربة.. الحياة لا تخلو من ظلم وهم أخيراً مع آخر مقطوعات شاعرنا يحيى توفيق حسن من ديوانه (أودية الضياع) ومن نفس القصيدة:
حديث العيون النجل أوهى فؤاديا
وسحر رهاف الخصر أزرى بحاليا
وكنت رجوت القلب أن يدع الهوى
فلما تلاقينا فقدت رجائيا
وأحسست أن القلب فيك متيم
وانك في دنياي كل عزائيا
ورب حديث من عيونك هزني
وألهم قلبي واستشار خياليا
أعلل نفسي بالجمال تجملا
وتشعرني الأيام ان لا تلاقيا
أحن لمن حالي شبيه بحاله
وأرثي لمن بلواه صنو بلائيا
فوا لهفي من بؤس قلبي وحيرتي
وقسوة أيامي وطول عنائيا
صروف زماني والهموم وعلتي
أطاحت بأحلامي وشلت صوابيا
أكابد في الدنيا كأني مخلد
وأعلم أني سوف أصبح فانيا
وقد غيرت حالي الهموم فلم أعد
سوى جسد واه تهالك زاديا
بهذه الأبيات البليغة انتهت الرحلة التي أودعتها وودعها أودية ضياعه.. وكان محقاً.
الرياض ص. ب 231185 *** الرمز 11321 ـ فاكس 2053338