1 - الغذامي.. وهذه الشجرة:
بقدر لا بأس به من الإجمال يُمكنني أن أقول: إن مدخل عبد الله الغذامي إلى المرأة هو: الحكاية، كما أن مدخله إلى الحكاية والرواية هو: المرأة، وفي كتابه: الجهنية اختصر هذه العلاقة الثنائية بينهما في جملة واحدة حين قال: الحكاية أنثى!.. وسنرى في محور الرواية الذي سيكون موضوع المقالة القادمة - بإذن الله - كيف أثّر هذا المدخل في أحكامه على هذا الفنّ، أمّا هنا فسأضيف إلى هذا أيضاً أن تتبع التسلسل التاريخي لمؤلفات الغذامي يُظهر أن النقد النسوي هو الذي قاده إلى التبني الصريح للنقد الثقافي، فقد صدرت كتبه: المرأة واللغة، وثقافة الوهم، وتأنيث القصيدة قبل صدور كتابه: النقد الثقافي الذي صار بمثابة تتويج لأعماله السابقة في هذا الاتجاه، وتوسيع لمدى رؤيته لقضية المرأة.
ويبدو أن هذا هو التسلسل المنطقي في النقد النسوي بعامة، إذْ كان تياراً نقدياً من التيارات الصاعدة في مرحلة ما بعد الحداثة، وقد سعى إلى تخطي المطالبة التقليدية بالمساواة والندّية إلى الفكرة الأجدى والأهم، وهي: الإقرار بالاختلاف بين الجنسين؛ بوصفه: اختلافَ تنوع، وليس اختلاف تفاوت في المستويات، وهذا يعني إعادة النظر في التفكير المركزي المبني على تبئير صفات إنسانية معينة، وتهميش الصفات المقابلة لها، وقد قدّم النقد الثقافي لهذا التيار مزيداً من الزخم؛ لأنه يشترك معه في الأساس الفلسفي التفكيكي نفسه، وهو: نقد مركزية الخطاب المستنِدة إلى الثنائيات الضدية؛ مثل: الأصل والفرع، والكمال والنقص، والعقل والعاطفة؛ لكنّ النقد الثقافي أوسع رؤية، وأكثر شمولية لقضايا التهميش، ومن هنا فإن دائرة اهتمامه أوسع حدوداً من دائرة الاهتمام في النقد النسوي.
للعقاد - وهو العدو الأشهر للمرأة - كتاب لافت عنها سمّاه: هذه الشجرة، حاول فيه أن يربط بأسلوب لا يخلو من طرافة ومن تعسف أيضاً بين طبيعة المرأة، ورواية العهد القديم لقصة أكل الشجرة التي نُهي آدم عن الاقتراب منها في الجنة، ومع أن القرآن الكريم يُساوي بين آدم وزوجه في اقتراف هذا المحظور؛ فإن هذا الفارق المهم لم يلقَ اهتماماً عند العقاد؛ لأنه ببساطة لا يساعده في بناء قضيته ضد المرأة!.. وهي القضية التي تشعر بأنها مبنية في معظمها على انطباعات شخصية تكوّنت في نفس العقاد من النماذج اللعوبة من النساء، ثم كساها بعد ذلك رداء فكرياً، واستعان بما شاء من حجج فلسفية، وأقيسة منطقية، وموقف العقاد هو في الواقع امتداد لسلسلة طويلة من مواقف الفلاسفة والمفكرين قبله؛ بدءاً من أرسطو، وانتهاء بالعدوين اللدودين للمرأة: شوبنهور، ونيتشه، ولم يكن توفيق الحكيم بعيداً عن العقاد في هذا الموقف؛ وإن كان أقلّ شراسة منه في الظاهر، وفي روايته: الرباط المقدّس تصوير دقيق لحِيَل الأنوثة وتلاعبها بالرجل المسكين!
رحل العقاد أواسط الستينيات حين كان عبد الله الغذامي لا يزال طالباً في المرحلة الثانوية؛ لكن كم تمنيت لو جمع الزمن بين هذين الرجلين: المهاجم الأشهر للمرأة، والمدافع الأبرز عنها، فلعلنا نطالب حينئذ بعقد مناظرة ثقافية بينهما حول الموضوع؛ حتى ننظر كيف تتسلسل الحجج، وكيف تنتفض الأفكار للدفاع عن الرأي الذي هو في الأساس موقف نفسي؛ وإن تلبّس بلبوس عقلي!
2 - عصا التأويل السحرية:
ليس غريباً أن تندفع بعض النساء في المحاماة عن جنسها - نفسها، وتمارس النقد النسوي لما تعده: ثقافة أبوية مهيمنة؛ حدث هذا مع كثير من الكاتبات؛ مثل: فرجينيا وولف، وسيمون دي بوفوار، وفاطمة المرنيسي، وغيرهن، فاشتكت وولف من الحصار الثقافي والاقتصادي الذي مارسه المجتمع الغربي ضد المرأة، وعبّرت بوفوار عن المأزق الوجودي للمرأة المتمثِّل في ضرورة انحيازها لأحد الخيارين المتناقضين: السعي لتحقيق الذات، أو التنعم بالرضا والقبول، وراحت المرنيسي ترصد طبيعة العلاقة المتوترة بين النساء والسلطة؛ لكنّ اللافت هو تبنّي رجل لمثل هذا الموقف؛ ولا سيما في ثقافتنا العربية المحافظة، ومع هذا لم يُرضِ هذا الموقف المتجاوز للذات من الغذامي بعض الكاتبات؛ إمّا لأنه جاء أكثر مما رغبن، أو أقل مما طمحن، فانتقدنه؛ كما صنعت فاطمة المحسن، وضياء الكعبي.
ترى الناقدة فاطمة المحسن أن مطالبة الغذامي بتأنيث اللغة تنمّ عن موقف راديكالي من الثقافة ومن اللغة معاً، ولعلها تقصد أن الغذامي لا يتناول تهميش المرأة أو ظلمها ضمن قضايا اجتماعية أو ثقافية محددة، بل إنه يتجاوز هذا ليستهدف الوعاء اللغوي الجامع للثقافة بمجملها؛ متهماً إياه بالانحياز ضد الأنوثة وتهميش صوتها، في مقابل تمجيد الفحولة والقِيَم الذكورية المتسلطة، ولعل من أطرف الردود التي قرأتها على إدانة الغذامي للنسق الفحولي للغة ما ذكره الناقد سعيد يقطين من أن الفحولة في التراث العربي مرتبطة بالخصوبة، فهي صفة عطاء، لا صفة قمع ومنع، وهي مطلب نسائي قبل أن تكون ادّعاء رجولياً؛ لأن الخصوبة الأنثوية لا تتحقق إلا بها! وهذا يعني أن مفهوم الفحولة مفهوم نسوي بالأساس.
كذلك رصدت فاطمة المحسن تغير رأي الغذامي في قضية: أولية الشعر الحر؛ بسبب تطور موقفه من المرأة، ففي كتابه: الصوت القديم الجديد أنكر ريادة نازك الملائكة للشعر الحديث؛ لكن عندما اختلفت أولوياته بعد ذلك، واتجه إلى إعلاء الإنجازات النسوية عاد وأقرّ بريادتها في كتابه اللاحق: تأنيث القصيدة والقارئ المختلف، هذا كلام الناقدة؛ لكن للحقيقة فإنك حين تعود للكتابين ستجد أن الغذامي لم يغير الوقائع التاريخية والعلمية فيهما، وأهمّ هذه الوقائع حقيقة: أن نازك الملائكة رائدة مشاركة مع السياب في تدشين حركة الشعر الحر؛ غير أن تأويل هذه الحقيقة من جهة، ونبرة التعبير عنها من جهة أخرى طرأ عليهما تغير كبير، فحين كان الغذامي ناقداً أدبياً في: الصوت القديم الجديد مضى يجادل نازك الملائكة في زعمها - كما قال - بأولية تجربتها للشعر الحر في قصيدتها: الكوليرا، وبعد تحقيق تاريخي ممتد لم يخلُ من عبارات تقريعية لها، وردود خشنة عليها سلّم لها أخيراً بالمشاركة مع السياب في ريادة الشعر الحر، أمّا في كتابه: تأنيث القصيدة الذي صدر متزامناً مع انعطاف الغذامي نحو النقد الثقافي والانتصار للخطاب المهمَّش، فقد انطلق من مشاركة نازك في ريادة الشعر الحر؛ ليقرر بعبارات منتشية وجازمة أنوثة قصيدة التفعيلة، وأنها البنت التي حرّرت لها والدتها - وهي هنا نازك - شهادة ميلادها: بإبداعها أولاً، وبتنظيرها النقدي ثانياً، متناسياً في استنتاجاته والد هذه البنت المفترَضة، وهو هنا: بدر السياب؛ لأنه لا معنى لوجوده وسط هذه القضية «النسوية»!
قد يُقال هنا: إن هذا الاختلاف بين نظرة الغذامي السابقة إلى نازك ونظرته الحالية إليها يُحسَب له، لا عليه؛ لأنه يدل على أن الغذامي كان ممتثلاً - كالآخرين - لشروط النسق المهيمن؛ غير أن مراجعته المستمرة لأفكاره هي التي قادته إلى تغيير موقفه القديم، وهذا يشبه إلى حد كبير التحول الناجح الذي اجترحه روّاد قصيدة التفعيلة في الشعر العربي، فلم يكن خصومهم قادرين على اتهامهم بالعجز عن نظم القصيدة التقليدية، وهم يرون النماذج الناجحة للقصائد التناظرية التي كتبها هؤلاء الروّاد أنفسهم، وفي مقابل هذا الموقف المتطور من الغذامي فإن حرص بعض النساء على التمسك بالنظرة المعهودة إليهن، ودفاعهن عنها هو في نظر الغذامي نفسه ضرب من العمى الثقافي؛ كما يقول في كتابيه: الجهنية، واليد واللسان، وفي علم النفس الحديث مفهوم قريب مما يطرحه الغذامي هنا، وهو مفهوم: التماهي بالسلطة، ويحدث حين يرى المقهور كيانه وصفاته بعين قاهرة.
على أن هذه الموازنة السابقة بين رأيين مختلفين للغذامي في قضية واحدة تكشف ما تتسم به كتاباته من بروز: سعة التأويل فيها، وأثر التوجّه الفكري المسبّق لديه في توجيه «الحقائق» التي يستنتجها من النصوص والمعطيات الأولية، نعم، صحيح.. كلنا لدينا هذا المأخذ، و: أيّ الكُتّاب المهذبُ؟ لكني أتحدث هنا عن بروز هذه السمة في كتابات الغذامي، وليس مجرد حضورها، وقد لحظ الناقد عبد الله إبراهيم أن الغذامي ينتقي شواهد متفرقة، ويقتطعها من سياقها، وهو ما يؤدي إلى تضخيمها وتعميم دلالتها، وتحويلها من ثَم إلى قانون متحكم مطّرِد، كما يؤكد معجب الزهراني أن الغذامي «ناقد تأويلي بامتياز»، ويرصد حاتم الصكر سمة الإفراط في التأويل في بحوث الغذامي، وتشير ضياء الكعبي إلى مركزية الفكرة المسبقة عند الغذامي التي تدفعه إلى تحميل النصوص من الدلالات ما لا تحتمل.
هذه كلها آراء متضافرة للنقاد تؤكد بروز هذه السمة عنده؛ ولكني أظن أن العبارة الأدق لوصف منهج الغذامي في تناول الدلالات اللغوية للنصوص هي: تداعي التأويل، وهو التداعي المبني على سلسلة ممتدة من الاستنتاجات المنطقية الإلزامية التي قد يتوقف القارئ كثيراً عند المفاصل الواصلة بينها، وقد يتردد مراراً في قبولها، بل قد يتجه إلى الاعتراض عليها ونقض أسسها، ولعل تمدد البساط التأويلي عند الغذامي نابع من استناده إلى نظريات القراءة والتأويل التي تتيح للقارئ إمكان إعادة إنتاج النص وكتابته من جديد، وكان الغذامي قد قدّم في كتابه الأول: الخطيئة والتكفير مرافعة قانونية ممتدة للدفاع عن حرية الناقد في تأويل النص؛ من الوجهتين: الفنية، والنفسية، ولعل هذا ما يفسر نبرته الواثقة عند تحليل النصوص، واستنتاجاته القطعية في مسائل يعزّ فيها اليقين، وفي مناطق اشتباك دلالي يصعب فيها الحسم، ومن الأمثلة الدالة على هذا المنحى عنده: تأويله البعيد في مستهل كتابه: المرأة واللغة لعبارة عبد الحميد الكاتب: (خير الكلام ما كان لفظه فحلاً، ومعناه بِكْراً)، فقد رأى الغذامي أن اللفظ هو الممثِّل الحقيقي للغة، وأن احتياز الرجل للفظ وجعل المعنى أنثوياً يُراد منه إقصاء العنصر الأنثوي عن الخطاب، مع أن عبارة عبد الحميد نفسها لو قُلِبت، وجُعِل فيها اللفظ بِكراً، والمعنى فحلاً؛ لوجد الغذامي فيها شبهة نسقية أيضاً؛ إذْ يمكنه أن يقول حينئذ: إن وصف المعنى بالفحولة جاء لأنه هو الجانب الأهم في الإنتاج الثقافي للإنسان، وهو الموجِّه الحقيقي للألفاظ!
3 - تساؤلات سعيد السريحي:
يشتمل الكتابان: المرأة واللغة، وثقافة الوهم على تتبع دقيق ومُضنٍ للشواهد التراثية والمعاصرة في موضوعهما، وقد امتاز الكتاب الثاني على الأخص بعلوّ أسلوب الغذامي فيه، وكانت لفتاته اللغوية في غاية الذكاء، أمّا اقتناصه لموضع الشاهد من الحكاية فقل ما شئت عن الحِذق والعمق والمهارة، هذا بالإضافة إلى توسعه في مصادر الحكايات، وجمعه بين شتى المشارب والثقافات، كما ابتعد عن الطابع التجريدي الذي وسم كتابه الأول، ومع هذا فقد تبتسم أحياناً أمام بعض الصيغ الجازمة بصحة الاستنتاجات الثقافية التي يصل إليها عبر تتبع الأنساق المضمَرة في الحكايات التراثية والمعاصرة، وهي الأنساق التي تؤكد في رأيه تورط اللغة الفحولية بمفرداتها وتراكيبها في جريرة تغييب المرأة وتهميش دورها الثقافي، وقد تتساءل - وأنت تتأمل آليات التفكيك الألسني التي أعملها في هذه النصوص وسلسلة التداعي التأويلي التي اعتمد في تحليله عليها - عن مدى خطورة النتائج التي يمكن أن نصل إليها حول الموقف من المرأة لو طُبِّقت هذه الآليات الألسنية والتداعيات التأويلية على الخطاب اللغوي الذي تتضمنه نصوص أرقى وأكثر أهمية.
صحيح أن الغذامي حدد مهمته منذ البداية بوضوح، وجعلها محصورة في نقد الأنساق الثقافية وليس الدينية؛ ولكنّ هذا السؤال لا يزال يلح عليك طوال قراءتك للكتابين، ولستُ بِدعاً في هذا، فالغذامي يروي في كتابه: حكاية الحداثة كيف انهمرت أسئلة «الشاب» سعيد السريحي عليه فور استماعه لحديثه عن فكرة: التمركز المنطقي، ودور التشريح في تفكيك هذا التمركز، وذلك قبيل صدور كتابه الأول: الخطيئة والتكفير، لقد كان السريحي يتساءل عن مدى خطورة آليات التفكيك التي يمكن أن يتجرأ آخرون - غير الغذامي - على توجيهها إلى نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي، وهو التساؤل المحيّر نفسه الذي عاد السريحي إلى طرحه بعد أكثر من عشر سنوات مع تدشين الغذامي لمشروعه في النقد الثقافي.
وفي تويتر وقبل فترة قصيرة طُرِح هذا التساؤل نفسه على الغذامي، فقد سأله المغرد: زياد الحربي عن رأيه في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}.. وقد ردّ الغذامي بشكل قاطع بأن: النص الديني ليس نسقاً، الأنساق ثقافية بالضرورة؛ ولكنّ زياداً لم يقتنع بالجواب، وعاد يطالب الغذامي بأن يكون شجاعاً كشجاعة العربية!.. على ماذا يدل هذا؟.. ألا يدل على أن الانتقال من مستوى تناول القضايا الاجتماعية والثقافية التي تُهمّش فيها المرأة إلى مستوى تناول اللغة نفسها واتهامها بالتهميش هو انتقال محفوف بالمخاطر الدلالية والمزالق التأويلية؟
4 - العالم يتأنث:
يشعر القارئ لحديث الغذامي عن المرأة أن للأنوثة وضعاً تفضيلياً مطلقاً عنده، ووجودها يمنح اللغة والكائن معاً ميزة ذاتية، أمّا الفحولة فهي معيبة ونسقية أنّى وُجِدت، والمنطلق التقويضي واضح في هذا الموقف التعميمي؛ لأن الفحولة لا تزال في مركز الثقافة، والأنوثة في هامشها، ولهذا يسعى التفكيك إلى خلخلة المركز، والانتصار للمهمّش.. حسناً ماذا سنصنع إذا انتقل العالم بالتدريج إلى عكس هذه المعادلة، وتحول الهامش إلى مركز، والمركز إلى هامش؛ فهل سيتغير الموقف؟.. هل سنتكلم حينئذ عن التأنيث النسقي؟.. وهذا بالمناسبة ليس بعيداً جداً، فالعالم يتأنث من حولنا، وبوتيرة مطّرِدة، هل نبني موقفنا دائماً - كما يقترح التفكيك - على مشاغبة النسق المسيطر؟.. هل هذا يعني أن موقفنا من القضايا غير مبدئي، وإنما يعتمد على موقع هذه القضية ضمن الثقافة السائدة، وهو موقع محكوم بالتغير الدائم؟.. أقترح على القارئ ألا يحاول الإجابة على هذه الأسئلة الكبيرة قبل أن يقرأ كتاب الغذامي الممتع: الجهنية؛ ليدرك أن المسألة أبسط بكثير من هذا، وأن السر الحقيقي يكمن في هذا الحب الفياض الذي كانت تبثّه فاطمة الجهنية - رحمها الله - في روح ابنها، وفي المكان والزمان حيثما تحل، وهو الحب الذي وسع الفتى، فوسع قلبه كل النساء، وتبنى قضيتهن بكل جوارحه.
د. سامي العجلان - الرياض