البداية كانت من الخرطوم..... والنهاية كانت في الرباط ومابينهما كان الفيتوري.. عندما يقرر الموت ان يزور شاعر.. فأنه يأخذ جسدة فقط.. فالشاعر الفيتوري عصيّ على النسيان..
عندما انتشر خبر وفاته المكذوبة سابقاً في وسائل الإعلام علق الفيتوري على خبر وفاته بجملة واحدة: «الشعراء لا يموتون» وأنا أقول ليس كل الشعراء يامحمد الفيتوري لكن أمثالك فقط، من جعلوا الإنسان والوطن والنضال ضد المستعمر قضيتهم.. ويعتبر الفيتوري أهم شاعر حدث للحركة الأدبية السودانية وأحد أهم رواد الشعر الحديث
يقول:
صوتك يا أفريقيا..هذا الذي يهزني هز الأعاصير صداه
أحبه.. وهو انفعال..ودم يغلي.. وثورة مطبقة الشفاه
أحبه.. وهو بريق أعين..تشنجت فيها إرادة الحياة
أحبه.. وهو خطى عارية..تحفز في الأرض مقابر الغزاة
أحبه لأنه صوتي أنا..صوتك يا أفريقيا..
من أجمل ماكتب الفيتوري من أشعار..همّة كان الوطن.. قضيتة كانت الانسان.. كتب الفيتوري عن الحرية والانعتاق ومناهضة القيود والاستبداد والاعتزاز بالوطن.
كانت قضيته الشعرية هي محنة الإنسان الأفريقي وصراعه ضد الرّق و الاستعمار ونضاله التحرري تلك أهم الموضوعات التي تناولتها قصائده، وألف عدة دواوين في هذا المضمار منها ديوان «أغاني أفريقيا» الصادر في عام 1955، و «عاشق من أفريقيا» وصدر في عام 1964م ، و«اذكريني يا أفريقيا» ونشر في عام 1965، وديوان «أحزان أفريقيا» والصادر في عام 1966، حتى أصبح الفيتوري صوتَ أفريقيا وشاعرها.
صوِّر الفيتوري نظرات الناس التي كانت تلاحقه بسبب: لون بشرته الأسود، وقصر قامته، وفقره.المعاناة كانت هي من صنعت مشاعر الفيتوري..
فقير أجل.. ودميم دميمْْ
بلون الشتاء.. بلون الغيومْْْ
يسير فتسخر منه الوجوهْْْ
وتسخر حتى وجوه الهمومْ
يقول نجيب صالح صاحب كتاب «محمد فيتوري والمرايا الدائرية» إن والد الشاعر الفيتوري هو الشيخ مفتاح رجب الفيتوري وكان خليفة خلفاء الطريقة العروسية، وهو صوفي ليبي عبر بوابة الشمال الأفريقي، ويبدو أن وطأة الاحتلال الإيطالي قبيل الحرب العالمية الأولى هي السبب المباشر في هجرة والد الشاعر وأسرته إلى غرب السودان ، أما والدة الشاعر فهي الحاجة « عزيزة علي سعيد» من أسرة شريفة من قبيلة الجهمة والجهمة قبيلة عربية حجازية هاجرت إلى صعيد مصر ثم إلى ليبيا.
والدها الشريف «علي سعيد» جد الشاعر الفيتوري تاجر رقيق وذهب وحرير ، تزوج من جارية على قدر كبير من الجمال وكرم الأصل كانت قد أهديت إليه ، فأنجبت له والدة الشاعر.
«زهرة» كانت الحلقة التراجيدية التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تشكيل وعي الشاعر ، فأورثت الفيتوري عقدة العبودية ، لازمه شعور العبودية وهو ماظهر جلّي بشعره..
يقول محمد الفيتوري:
جبهة العبد.. ونعل السيد
وأنين الأسود المضطهد
تلك مأساة قرون غبرت
لم أعد أقبلها.. لم أعد
شكّل شعر الفيتوري صرخات أفريقية لخلع ثوب العبودية والقهر، أراد أن يكون محامياً لقاّرته السوداء، وناطقاً باسم الأفارقة العرب، ولكن لم يغفل أن يكون شعره امتدادا للعرب من خلال ملامسته لأزمنة الرتابة العربية والخذلان والتمزق.. يقول الفيتوري:
يابلاد الزنوج الحفاة العراة
سآتيك يوماً.. كغاز جديد
شهد شعر الفيتوري ازدحاماً وثراء بالرموز الدينية التي اختزلتها ذاكرتة واستحضرها عقله بكثير من الجلالة والمهابة، وذلك يعود لثقافتة الدينية وحفظة للقرآن الكريم ،الحزن والاغتراب شكلتا مساحة كبيرة من شعره ونتج عنهما نزعة التأمل في الكون والحياة .. يقول:
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء.
وردت كثيراً مفردات ك «الأنبياء» في شعره، ويأتي استخدامها استحقاقا لواقع تستقوي فيه فرضيات الهيمنة والبقاء والسيادة للأقوى..
تجربة الشاعر محمد مفتاح الفيتوري رغم اكتمالها شكلا ومضمونا، تبقى عصية على النقد والتقييم، لكن سيظل من أهم شعراء القارة السوداء في القرن العشرين، وسيظل حيا لا يدركه الموت والنسيان، أليس هو من قال:
مثلي أنا ليس يسكن قبرا
لا تحفروا لي قبرا
سأرقد في كل شبر من الأرض
أحلام الفهمي - الدمام