(1) لم يدر بخلد الفتى الطائفي -نشأة وتتلمذاً وتمدرساً- أن يكون أحد منسوبي التعليم والتربية، فقد كان أقصى طموحه وهو يغادر عتبة المرحلة الثانوية - الالتحاق بإحدى الكليات العسكرية!! لكن جيناته التكوينيه كانت تخبئ له هذا المستقبل التعليمي.
أتذكر أنني كنت أساعد الوالد - في إجازات الصيف - في تعليم وتدريس الطلبة الذين عليهم إكمال الدور الثاني في مسجده بحي الشهداء الجنوبية بالطائف، فقد كانت نجاحاتي الدراسية تؤهلني لهكذا دور وتعدني لمستقبل كنت أجهله.. ولكنه صار واقعاً بعد التحاقي بكلية الشريعة في مكة وتخرجي من قسم التاريخ عام 96-97 هـ. والتحاقي بوزارة المعارف - آنذاك - التربية والتعليم حالياً، وتعييني معلماً في إحدى مدارس جدة المتوسطة.
(2) ثمان أو تسع سنوات كان عمر بداية التجربة التعليمية معلماً فوكيلاً بمدرسة الحديبية المتوسطة، كان مديرها الفاضل الأستاذ سعيد العبيدي أحد رموز التعليم في جدة آنذاك، احتواني بأبوية حانية، وروح تربوية / قيادية عالية، استشعر فيّ روحاً قيادية فحملني مسؤولية وكالة المدرسة مبكراً من العام الأول إضافة إلى جدولي الدراسي معلماً للاجتماعيات ومنذ العام الثاني فرغت للوكالة.
كانت فترة الحديبية بداية التشكيل والتنامي الإداري والتربوي لمعلم مستجد رأس ماله شهادة جامعية، وطموح إداري، وهمه مثوبتة.
كانت تطلعاتي نحو استكمال الدراسات العليا/ الماجستير والدكتوراه بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، فتهيأت الفرص والظروف وتمكنت من ذلك حيث حصلت على شهادة الماجستير في التاريخ الحديث 1405 هـ والدكتوراه 1412 هـ.
كانت سنوات الحديبية ربيعاً أخضر، زمالات تربوية، ونشاطات طلابية، ومواكبة لقضايا الأدب والثقافة عبر نادي جدة الأدبي وصالون الاثنينية الثقافي. وفعاليات جامعة الملك عبدالعزيز الفكرية والثقافية.
كانت مدرسة الحديبية المتوسطة في حي النزلة اليمانية بجوار قصر خزام - القصر التاريخي للملك سعود رحمه الله -. وبجوار المكتبة العامة التابعة لإدارة تعليم جدة. ومنها تشكل أفقي المعرفي التاريخي والتراثي، وأفقي التربوي، فقد كانت المكتبة ملاذاً معرفياً لشاب يتطلع بالعلم ولا زال غضاً لم يرتبط بحياة زوجية تصرفه عن الآفاق التعليمية فكانت المكتبة العامة مورداً خصباً للكثير من الطموحات الفكرية والثقافية. وكانت - فيما بعد - الإدارة الأولى التي كلفت مديراً لها عام 1418هـ وهي إدارة الثقافة والمكتبات.
(3) وبعد نجاحاتي الإدارية والتربوية في هذه المدرسة، تم تكليفي في العام 1406هـ بالعمل مديراً لمدرسة متوسطة محدثة سميناها عمرو بن الجموح وهي في أحد أحياء جنوب جدة - وعبر ثلاث سنوات (1406-1409هـ) كنت في مدرسة تدريبية على الإدارة الفعلية والقيادة المسؤولة، وكانت تهيئة واستشراف للمرحلة القادمة من التنامي الوظيفي / الإداري تعلمت خلالها كثيراً من الفنون الإدارية، والعلاقات الإنسانية، ونكران الذات، وإدارة الوقت، والانضباطية. وتعلمت فيها أن الإدارة فن.. وعلم.. وخبرة وتوجت ذلك كله بالحصول على دورة تدريبية في الإدارة المدرسية بجامعة أم القرى - كلية التربية في أوائل عام 1405هـ.
(4) ولما أحس القائمون على الإدارة المدرسية في تعليم جدة وعلى رأسهم المربي الفاضل والأستاذ الخبير عبدالجبار ظفر (رحمه الله) بما أنا عليه من التكوين الإداري والتمكن القيادي والخبرة التراكمية رشحني في عام 1409هـ لإدارة مدرسة ثانوية جدييدة تطبق النظام المطور وسميناها ثانوية جرير وكانت في حي الروابي شرق الجامعة وحينها أحسست بعظم المسؤولية والنقلة النوعية في مجال الإدارة المدرسية، فأنت أمام مرحلة ثانوية، ومعلمين فطاحلة، ونظام تربوي تعليمي جديد، وطلبة ناضجين ومجتمع تربوي / تعليمي لا يرحم!!
(5) مضت بنا السنون الإدارية في جرير حتى العام 1413هـ لننتقل موفداً إلى دولة الباكستان وفي المدرسة السعودية بإسلام أباد / العاصمة قضيت فيها أربع سنوات غاية في الروعة والخبرة والجمال عايشت فيها رجال الدبلوماسية والسلك العسكري والملحقية الثقافية وسنوات الجهاد المعروفة وعدت بعدها لأدخل في مرحلة انتقالية / عملية جديدة وهي فترة الإشراف التربوي.
(6) بدأت المرحلة الإشرافية منذ العام 1416هـ. حيث تعرفت وعايشت الجيل الأول من رواد التعليم في جدة رواد الإشراف التربوي، قادة العمل التربوي، راضي الجهني مدير الإشراف، عبدالجبار ظفر مدير التعليم الأهلي، دخيل الله الصريصري مدير الإدارة المدرسية، عبدالله الهويمل مدير شؤون المعلمين، حامد السلمي مدير مركز الإشراف بجنوب جدة، صالح فتّة مدير مركز الإشراف بالوسط، عبدالله الثقفي مدير مركز الشمال وغيرهم، ويقود الكوكبة الدكتور خضر بن عليان القرشي مدير عام التعليم وحميد القرشي مساعداً للتعليم، أصبحت مشرفاً للإدارة المدرسية ومساعداً لمديرها الزميل دخيل الله الصريصري، ودخلنا في صراع عمل تطويري لا يعرف الخمول ولا السكون فالعاصفة التربوية والعملية التي قادها خضر القرشي جعلت كل من في الميدان يتفاعلون ويتجاوبون.
كانت الإدارة المدرسية شعلة من النشاط والإنتاجية والبرامج التدريبية وبرامج القيادات الإدارية وتبادل الزيارات، ودراسة اللوائح والأنظمة وكان من نتاج ذلك الحراك أن وثقت ورصدت وأرخت لتلك المرحلة في منجز تربوي / كتاب بعنوان الإدارة المدرسية تجارب ونجاحات، صدر عن دار ابن حزم عام 1424 هـ وقبل ذلك أصدرت كتاباً تربوياً بعنوان : القيادة التربوية بين السلطة والمسؤولية نشر عام 1422هـ.
وأمام هذه الجهود والحراك العملي في حقل الإشراف التربوي وبعد صدور الهيكل لوزارة المعارف التي أصبحت التربية والتعليم والإدارات التابعة لها. وفيها إدارة جديدة باسم الثقافة والمكتبات. وجد المسؤولون في تعليم جدة أن تسند هذه الإدارة لشخصي. فأصبحت مديراً لها منذ العام 1418هـ (كما أشرت قبل قليل).
(7) كانت إدارة الثقافة والمكتبات - بالنسبة لي - منعطفاً هاماً في مسيرتي الإدارية والعملية فأنا أمام ثلاث مهام شاقة ومثيرة: مهمة ثقافية، ومهمة تربوية، ومهمة مكتبية. وبدأت الانطلاقة شكلت فريق عمل متخصص لقسم المكتبة العامة وفعالياتها المعروفة بقيادة الزميل عبدالرحمن الأسمري (المتخصص في المكتبات)، وفريق عمل متخصص للشأن الثقافي بقيادة الزميل عايض القرني، وتفرغت أنا للمهمة الإدارية والتربوية التي تعتبر الجزء الواصل بين كل المهمات. ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت المكتبة العامة بجدة مزاراً للطلاب والباحثين والدارسين، وقد كانت منفى للموظفين الفاشلين ومستودعاً للكتب وخزانة للصحف والدوريات، كما أصبحت موئلاً للمثقفين والفعاليات الثقافية التي سحبت البساط عن النادي الأدبي بجدة. وكانت المكتبة بذلك معلماً تربوياً وثقافياً معروفاً.
وفي هذه الفترة كلفت بالعمل مديراً لمشروع تأليف مقررات اللغة العربية، وعضواً فعالاً في فريق التخطيط الاستراتيجي ثم نائباً لمديره الخلوق الاستاذ عبدالرحيم بهاء الدين ثم رئيساً له فيما بعد، وعندما تم إلغاء إدارة الثقافة والمكتبات من الهيكل الوزاري وسلمت لوزارة الثقافة والإعلام، رأى المسؤولون نقلي إلى إدارة التخطيط والتطوير التربوي بعد وفاة مديرها الأستاذ علي فلاته - رحمه الله - وكان ذلك في العام 1427هـ.
(8) لقد كانت فترة التخطيط مرحلة فكرية - بكل ما تعنيه الكلمة - مرحلة الأحلام والرؤى المستقبلية والخطط والبرامج التي تحقق تلك التطلعات. تعلمت فيها كيف نحلق - كالصقور - لنرى المجال التربوي والآفاق التي تستوعب برامجنا وآمالنا، عقدنا اللقاءات التخطيطية التي كانت أولوية مطلقة لتعليم جدة استفاد منها باقي المناطق التعليمية عندما استضفناهم للمشاركة. نشرنا ثقافة التخطيط في الميدان إدارة وإشرافاً ومدارس، طبعنا الخطط الفصلية والسنوية وأعددنا التقارير الختامية. فكانت هذه المرحلة مدرسة فكرية أتت ثمارها على المستويين الإداري والميداني. والحمد لله.
(9) ولما دخلت وزارتنا الموقرة في مرحلة توحيد الإجراءات بين تعليمي البنين والبنات فيما سماه البعض ( الدمج ) رأى القائمون على تعليم جدة إسناد التخطيط والتطوير إلى الزميلات ونقلي إلى إدارة جديدة فكانت المحطة الأخيرة إدارة تعليم الكبار منذ العام 1432هـ.
كانت إدارة تعليم الكبار حلماً ماضوياً تمنيته كثيراً، فكلما قيل التدوير الوظيفي طلبنا تحديدا هذه الإدارة، وتشاء إرادة الله أن أختم بها مساري الوظيفي والقيادي والإداري.
ثلاث سنوات من العمل الإبداعي في هذه الإدارة برفقة زملاء علموني كثيراً وشاركوني كثيراً وساندوني كثيراً حتى جعلنا من هذه الإدارة المنسية إدارة فاعلة.. متحركة.. منتجة تستدعي كل القيادات للتفاعل معها، أقمنا مناشط رياضية، ومسابقات قرآنية، وملتقيات تعليمية، وبرامج تدريبية وحفلات ختامية. جعلت كل المسؤولين في تعليم جدة وفي الوزارة يلتفتون إلى هذه المنجزات ويقدر من يقف وراءها خبرة وعطاءً والحمدلله.
زاملنا أخوين عزيزين : أحدهما خبير في تعليم الكبار منذ فترة طويلة بجدة وهو الأستاذ الفاضل فارس المالكي العقل المنظم للإدارة، الحاوي للنظم والهياكل الإدارية والمالية المرتب للفعاليات والبرامج الموجهة لمحو الأمية. والثاني صاحب العقل التقني والتطوير الحاسوبي الذي انضم إلينا في السنة الثانية مشرفاً لتعليم الكبارالأستاذ محمد الظاهري والذي أصبح إضافة معرفية حاسوبية وتقنية وأنشطة لا صفية، وفعاليات متميزة. ثم أضيفت إلى إدارتنا المرحلة المتوسطة والثانوية التي كانت تتبع الإشراف التربوي لتسعد برفقة الزميل المشرف التربوي أديب مليباري الذي يحمل مسؤولية هذا القسم من التعليم الليلي.ومع هذه القيادات الإشرافية هناك فريق عمل من الموظفين الرائعين. الذراع المساند والداعم الأساس لكل فعاليات الإدارة وفقهم الله.
(10) ثمان وثلاثون سنة من الركض التربوي والتعليمي والإداري عاصرت فيها خمس قيادات إدارية قادوا التعليم وهم: د. عبدالله الزيد، د. خضر القرشي، الأستاذ. سليمان الزايدي، الأستاذ. عبدالله الهويمل، وأخيراً الأستاذ. عبدالله الثقفي.
اثنان أكاديميان من أبناء الميدان الجامعي، قادا مسيرة التعليم في جدة بعقليتهما الأكاديمية. والبقية أبناء الميدان التربوي, أبناء هذه الوزارة واحد نقل إلى جدة من العاصمة المقدسة وقبلها ينبع، والثاني والثالث نبتة طيبة وخيرة من أرض التعليم الجداوية، والبيئة الطائفية تعلمت من هذه القيادات الكثير والكثير. وأدين لهم بمزيد من الفضل الإداري والتربوي والمعرفي. وأكن لكل واحد منهم حيزاً كبيراً من الذكريات لعلي أسردها ذات يوم في سيرتي الذاتية/ كاتب عدل التعليم!!
وجدت في عبدالله الزيد الرجل الملهم الذي يسكب في ذاتك كثيراً من القناعات التربوية ويجعلك تتبناها ونؤمن بها عقيدةً وسلوكاً ومنتجاً معرفياً.
وتعلمت من خضر القرشي : كيف تهب العواصف الإدارية فتحمل ماضٍ تقادم وتؤذن بقادم زاهِ وجديد، وتعيد اختراع العربة ليتحرك كل شيء إلى الأمام.
ومن سليمان الزايدي أدركت قيمة الهدوء والرزانة والعقلانية والتأني لإحداث الأثر المطلوب.
أما عبدالله الهويمل وعبدالله الثقفي فعلماني كيف تكون الإدارة والقيادة إذا نبتت من نفس الحقل والبيئة التي تربينا فيها !! علماني الشجاعة في مواجهة المواقف الإدارية والتحفيز المستحق بكل صدقية وأمانة، والتشاورية التي توصل إلى مزيد من العمل الصحيح.
(11) ثمان وثلاثون عاماً هي كل العمر التربوي والعملي.. تعلمت فيها ما جعلني مباركاً أينما كنت إدارة وعملاً أو قيادة أو انجازاً، وتعلمت فيها أن الجهد مع الإخلاص والمثابرة توصلان إلى أعلى المراتب، وتعلمت فيها أن أعمل لله. مستعيناً به ومتوكلاً عليه فتنتفض كل المغاليق وتتسهل كل الأمور. تعلمت فيها أن التواضع يوصل إلى أعلى الدرجات. وأن الإنسانية طريقك إلى مجابهة المشكلات. وان فرق العمل تحقق أروع الإنجازات.
وتعلمت - أخيراً - ان القائد الناجح مقود فاعل منتج يوصل إلى النجاح وأن الذي يصل إلى أعلى البناية (السطوح) لابد أن يتحمل المطر والرياح وتقلبات الأجواء بكل روح رياضية ويحول الآلام إلى آمال وتطلعات والفشل الأولي إلى مساحات من التقدم والنجاحات.. تعلمت أشياء كثيرة لا يتسع المقام لذكرها ولعلنا نكتفي بالإجمال دون التفاصيل.
** ** **
وعلى كل ذلك لله الحمد والمنّة.
ولإخواني وزملائي ومن ساندني كل الحب والدعاء.
والحمد لله رب العالمين.